مقالات

وجه الحقيقة..الحب في مرآة التعدد..”رحلة الوعي بين الامتلاء والاحتياج”  

بقلم : د. آمال بوحرب

بقلم : د. آمال بوحرب

مدخل إلى جوهر المشاعر الإنسانية

‏‎المشاعر هي جوهر الحياة الإنسانية ونبضها الحيوي الذي يغذي الروح ويمنحها عمق التجربة الوجودية وهي القوة الدافعة التي تلهم الإبداع، وتشكل الجسور بين العقل والقلب، وتتجلى في الفن والأدب والفكر الفلسفي. فحين تُدار المشاعر بحكمة، تخلق توازنًا دقيقًا يسمح للإنسان باكتشاف ذاته وعلاقاته بصدق ووعي فتمنح للحياة ألوانها ومعانيها، وإلا فتصبح الحياة جافة بلا إشراق.

المسكوت عنه في الحب والوعي الذاتي

‏غير أن المسكوت عنه في حياة الإنسان، يحملنا إلى آفاق بعيدة تتداخل فيها قضايا وأيديولوجيات معقدة لا نحب أن نحيطها بالذكر. شخصيًا أرى أن الوقت قد حان لملاقاة تلك التبعات؛ فالحب أحيانًا يزهر من فجوات الفراغ الروحي، ومن ساحات الروح التي تتوق إلى الدفء والمعنى.

حين يزهر الحب من الفراغ

‏قد يدخل الرجل في علاقة جديدة دون إدراكٍ لمفهوم الخيانة، لأن ذاته قد تحطمت تحت ثقل الأعباء وضغوط الأدوار الاجتماعية بين صمته المفروض وحنينه القديم لأن يُرى ويفهم ويُحب خارج القوالب التقليدية. في تلك اللحظة، ينبعث في داخله نداء خفي كأن روحه تطرق جدران وعيه تطلب بصيص حياة جديدة، تمتد يده نحو وهج امرأة يراها انعكاسًا لطاقة مهدورة يأمل أن توقظ ما غفا في أعماقه، يبحث عنها ليجد ذاته.

المفارقة بين الوفاء والحنين

‏‎فتتجلّى المأساة الكبرى في انقسام قلبه بين المرأة التي رافقته في رحلة الحياة وحافظت لذاكرته، وبين امرأة جديدة تعيد إليه توهج البدايات وتوقظ رجولته من سبات طويل. فيقف الإنسان في هذه المفارقة بين الوفاء والحنين، بين الواجب والرغبة، بين ما هو واقع وما يتوق إليه.

الحب كمرآة للذات المفقودة

‏‎عالم النفس “كارل يونغ” أشار إلى أن الإنسان يبحث في الآخر عن صورته المفقودة، فالعلاقة الثانية هي مرآة لنقائصه الداخلية، ودعوة لمصالحة الذات؛ وعندما يعجز عن ذلك، يتوه في ظلال الآخرين باحثًا عن صدى وجوده المنكسر.

الفلسفة الأخلاقية للحب

‏‎أما الفيلسوف “إيمانويل كانط” فيرى أن الحب قيمة أخلاقية تتحقق حين يُعامل الآخر كغاية في ذاته، لا كوسيلة لملء الفراغ، وحين يتحول الحب إلى مجرد تسكين للألم، يختبر الإنسان حدود إنسانيته.

منظور “إريك فروم”: الوعي قبل العاطفة

‏‎المفكر الإنساني “فروم” يذهب إلى أن الحب هو فعل ناضج ومسؤولية وقرار واعٍ، إذ إن العلاقات التي تُبنى للهروب من رتابة الحياة تحفز على الوعي الداخلي. ما يحتاجه القلب بدايةً هو سلام مع الذات قبل أي لقاء خارجي.

اختزال الحب في الجسد.. مأساة الوعي

‏‎المأساة الثانية تكمن في اختزال الحب بالعلاقة الجسدية فقط. كثيرون يقلصون العاطفة إلى متعة سطحية، ويعتقدون أن الجسد هو مرادف الحب، وهذا تبسيط يفقد العلاقة عمقها الروحي. اللقاء الجسدي الذي يخلو من الوعي لا يترك أثرًا حقيقيًا، فالمشاعر تُقاس بمدى أعماق الأثر الذي يخلّفه الآخر في وعينا وذاكرتنا، وفي تساؤلاتنا عن ذواتنا.

الحب بين الوفاء والشغف

‏‎الحب يمنح القدرة على الوفاء دون أن يفقد الشغف، ويبقي الشغف حيًا دون أن يمس إخلاص القلب. هو تجربة إشراق داخلي تفتح منافذ الروح على الجمال والصفاء. القلوب أماكن مقدسة تستحق الاحترام، ومن يعبث بها طلبًا للدفء اللحظي يحصد وجعًا يلتصق بالروح كظل لا يفارقها.

الحب في زمن التحوّل الإنساني

‏‎في العصر الحديث، تشير الكاتبة “هانا أرندت” في كتابها “الحياة الإنسانية” إلى أن الحياة تجربة مستمرة، والتغيير جزء أساسي من كينونة الإنسان. فالتجربة متغيرة، والفهم الحقيقي للحب يحتاج إعادة تأويل تدمج بين التغير والالتزام، وتعكس طبيعة الإنسان المتبدلة وميله الدائم لتشكيل ذاته وعلاقاته.

هنا يتساءل الإنسان: إلى أي مدى تعكس خيارات الحب تغيّر الذات وتطورها، وانفتاحها على تجارب جديدة؟ أو هل هي تعبير عن عدم ملاءمة الشريك الأول نتيجة ترتيب غير واعٍ للحياة؟

كل تجربة حب تمنح وعيًا أعمق بذاتنا، وتكشف كيف تتحرك القلوب وتختلف الاحتياجات حسب العمر والنضج.

ديستويفسكي: الحب كطريق للتحرر الروحي

‏‎أما “فيودور ديستويفسكي” فيرى الحب قوة روحية تفوق المشاعر العابرة، مصدر الحياة والروح، ومسار التحرر النفسي والروحي. وهو تجربة تعقّدها الآلام والتضحيات، اختبار عميق لإنسانية الإنسان.

الحب الحقيقي بحسبه التزام أخلاقي وروحي يتطلب مواجهة التناقضات الداخلية، كما قال:

‏‎“ما هي الجحيم؟ أنا أؤمن أنها العذاب الناتج عن عدم القدرة على الحب.”

ولعله يؤكد أن تقبل الآخر وقبول عيوبه، وإدراك أن غيابه يعني غياب الحياة بمعناها الإنساني العميق، من مشتقات هذه المشاعر الغريبة والمعقدة والجميلة.

الحب.. طريق العودة إلى الذات

‏‎ختامًا، يظل الحب حسب التجربة الإنسانية والوجودية مدخلًا لكشف أعماق الذات، ومنها يعود الإنسان إلى وعيه بذاته وبحياته، متجددًا رغم الأزمات، جامعًا بين الحرية والالتزام. كما قال “قيس”:

‏‎“والحُبُّ عطّرَ روحاً كي يُخَلِّدها

فَمَدَّ أمواجَهُ في الأرضِ طُوفانا

قد ماتَ قيسٌ..ولكنْ رُوحُهُ بقيَتْ

وَسَوفَ تَبقى معَ العُشّاقِ أَزمانا.”

وفي الحقيقة، ورغم كل هذه التعريفات، غالبًا ما يخامرني عند كل كتابة عن المسكوت عنه السؤال نفسه:

‏‎هل المشكلة تعود إلى عدم فهم المفاهيم؟

‏‎أم إلى الاختيارات الأولى المتسرعة؟

‏‎أم إلى طبيعة الإنسان المتغيرة؟

 

نور التيه: قراءة تحليلية وسيميائية لديوان ‘لا تلمس الضوء… فقط غنِّ’”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى