حديثٌ يشبه الحياة

بقلم الكاتبة: د.سوسن توفيق حنفي
سلسلة “على عتبة العابرين “
“تكلّم حتى أراك.”
سقراط
لأنّ الكلمة ليست صوتًا عابرًا في الهواء،
بل مرآةٌ تكشف ما تخفيه الصدور،
ومفتاحٌ يفتح خزائن العقول والقلوب معًا.
فكلّ حديثٍ صادق هو نافذة على الداخل،
وكلّ بوحٍ نابع من القلب هو بداية تعافٍ لا تشبه أي علاج.
في قسم الطوارئ، ليست الأجهزة وحدها التي تُعيد النبض،
وليست العقاقير وحدها التي تشفي.
أحيانًا، تكون الكلمة هي المصل،
ويكون الحديث هو الإنعاش الحقيقي للروح.
في هذا المكان المزدحم بالوجع، المليء بالأصوات والتأوهات،
تعلمت أن بعض الأرواح لا تحتاج إلى دواء ولا إلى وصفة،
بل إلى من يُصغي، من يُنصت بصدقٍ دون استعجال.
فثمة حديث صادق يوازي مفعول الدواء،
ولغةٌ تُنقذ كما تُنقذ الأجهزة الطبية، لكنها تنقذ أصل الروح من الداخل.
⸻
حين يكون الكلام علاجًا
رأيتُ مرضى بنوبات هلعٍ تزلزل الجسد،
يتصبّبون عرقًا، تتسارع أنفاسهم كأنهم يهربون من خوفٍ لا يُرى.
يُعطَون المهدئات فلا تهدأ قلوبهم،
لكن ما إن يبدأ الحديث معهم،
حديثٌ بسيط، دافئ، يحمل بين كلماته طمأنينةً أكثر من أي عقار،
حتى ترى كيف يعود التنفس إلى انتظامه،
وكيف تخفّ ارتجافة اليد، وكيف تهدأ العيون بعد اضطرابها.
الكلمة هنا ليست “نصيحة طبية”، بل يدٌ تُمسك بالروح قبل الجسد.
ثم هناك من يخافون التشخيص،
يجلسون في صمتٍ وعيونهم معلّقة بزاويةٍ في الفراغ،
يخشون أن يُقال لهم ما يخشونه،
يُقاتلون فكرة النهاية قبل أن تبدأ.
تقترب منهم فتدرك أن العلاج ليس في النتيجة فقط بل في الحوار،
في أن تُشركهم في الفهم، في أن تمنحهم منطقًا يبدّد الخوف،
ونبرةً تقول لهم إنهم لن يواجهوا المجهول وحدهم.
هؤلاء لا يحتاجون وعدًا، بل لغةً دافئة ترويهم بالرجاء،
وإن لم تغيّر الواقع، فهي تغيّر طريقة احتماله.
وفي الطوارئ نفسها، ترى من جاء لا يشتكي من ألمٍ في الجسد، بل من ضجيجٍ في الحياة.
تلك الفئة التي تبحث في الطبيب عن مستمع، في السؤال عن احتواء،
في “كيف حالك اليوم؟” عن سببٍ للبقاء.
ورغم أن الطوارئ عالمٌ لا يعرف البطء،
إلا أنها تعلّمنا أن هناك لحظاتٍ تستحق الاستفاضة،
أن الحديث لا يناقض المهنية، بل يُكملها.
فالكلمة الصادقة قد تفعل في النفس ما لا تفعله أقوى العقاقير.
⸻
قصة الصداع الذي شُفي بالكلام
أذكر شابًا جاء ذات مساءٍ يئنّ من صداعٍ لا يفارقه منذ شهور.
حمل معه ملفًا مليئًا بالتقارير، وأقراصًا من الأدوية، وعينين مثقلتين بالهواجس.
قال بثقةٍ حزينة:
“أنا متأكد أن في رأسي مرضًا لم يُكتشف بعد… لقد أنهكني الصداع حتى لم أعد أعيش.”
فحصتُ كل شيء: التحاليل، الأشعة، نتائج الرنين، جميعها سليمة.
لكن صوته كان يرتجف كما يرتجف من ينتظر حكمًا بالإعدام.
جلستُ معه، شرحتُ له بالتفصيل كيف تعمل الأعصاب،
وكيف أن الصداع المزمن أحيانًا نتيجة توترٍ متراكم،
وكيف أن القلق نفسه قد يخلق الألم الذي يخشاه.
تحدثنا طويلًا، لا بصفتي طبيبة فقط، بل إنسانة تفهم أن الخوف يُتعب الجسد كما المرض.
شيئًا فشيئًا، رأيت عينيه تبرقان بشيءٍ يشبه الراحة.
ضحك أخيرًا، وقال:
“غريب… لم أشعر بخفّة كهذه منذ شهور.”
ثم خرج من الطوارئ بلا دواء، فقط بكلمات أزاحت عن رأسه ثِقلَ الهواجس.
ازددت يقينًا أن بعض الألم لا يُشفى بالمسكنات، بل بالحديث الصادق الذي يُعيد ترتيب الفوضى داخلنا.
⸻
الحديث خارج الطوارئ
أفكر كثيرًا في قيمة الحديث في عموم الحياة.
فليس في الطوارئ وحدها يكون للكلام أثرٌ شافٍ،
بل في كل تفاصيل الوجود، في كل علاقةٍ صادقة.
الحديث مع الحبيب معجزة صغيرة لا يفهمها إلا من ذاقها.
حديث المحبين لا يخضع لقوانين المنطق،
قد يتحدثان عن اللاشيء، عن تفاصيل لا تهمّ أحدًا،
لكنها في قاموسهم كلّ شيء.
حديثهما لغةٌ لا تُترجم،
نَفَسٌ يُجيب عن سؤالٍ لم يُطرح،
وصمتٌ يقول ما لا يقوله الكلام.
كلمةٌ منه قادرة على إحياء يومٍ بأكمله،
ونبرةٌ دافئة منه تشفي أكثر من ألف دواء.
في حضرة الحب، حتى اللامعقول يبدو معقولًا،
وحتى السكون يتحول إلى حوارٍ خفيٍّ تُدركه الأرواح قبل الأذن.
الحديث بين المحبين لا يُقاس بالمنطق، بل بالنبض.
أما الفضفضة للصديق، فهي علاجٌ من نوعٍ آخر.
هي مساحة نلقي فيها أثقالنا دون خوفٍ من الحكم،
ونخرج منها أخفّ، وكأن شيئًا لم يكن.
إنها جلسة استراحةٍ للوجدان،
يتعافى فيها المزاج وتُشفى فيها الخواطر المرهقة.
⸻
الحديث مع الوالدين
لكن أعظم الأحاديث -وأصدقها أثرًا- هو الحديث مع الوالدين.
ففي كلماتهما طمأنينةٌ لا تشبه أي دواء،
وفي نبراتهما حياةٌ أخرى، كأن القلب يُعاد تشغيله على تردّدٍ من حنان.
حين تتحدث مع أمك، تشعر أن صوتها يُنظّفك من الغبار العالق في الروح.
في حديثها عافية، وفي دعائها بركة لا تُرى.
دعاؤها توفيقٌ يسبق الخطى،
ونبرتها دفءٌ يُعيدك طفلًا مهما كبرت.
حديث الأب، على الجهة الأخرى، يُشبه البوصلة التي لا تُخطئ.
يختصر عليك دروس الحياة في جملةٍ أو وصيةٍ عابرة،
وكأنه يرى المستقبل من زاويةٍ أعلى.
كلماته لا تُقال لمجرد النصح، بل لتسندك حين تسقط دون أن تراها قريبة.
الحديث معهما ليس ترفًا، بل أمانٌ روحيّ،
من فقده أدرك كم كانت الحياة آمنة حين كانا يسمعان صوته.
نغمة والديك ليست مجرد صوت؛ إنها إشارة حياة.
دعاؤهما يفتح الأبواب المغلقة دون أن تدري،
وتوجيههما يُعيدك للطريق حين تضلّك الخطى.
كم مرة كنا نحمل همًّا ثقيلاً، فنتحدث إليهما فنخرج خفيفين،
وكم من ارتباكٍ زال بكلمةٍ منهما،
وكم من قسوةٍ تلاشت حين قالا: الله معك يا بُني.
الحديث معهما امتداد للحياة نفسها،
وبقدر ما تقترب منهما، تشعر أنك تقترب من نفسك الأولى،
من جذورك التي لا تذبل مهما ابتعدت.
⸻
فنّ الموازنة في الحديث
ومع ذلك، يبقى فنّ الكلام قائمًا على الموازنة.
فالإفراط في القول قد يُفقد المعنى بريقه،
كما أن الإسهاب في غير موضعه يُطفئ وهج الفكرة،
ويحوّل الحوار إلى ضجيجٍ لا أثر له.
إنّ اختيار الكلمات مهارة تشبه وصف الدواء:
القليل منها قد يشفي، والكثير بلا موضعٍ قد يرهق المستمع والروح معًا،
بل قد يكون مثل الجرعة الزائدة الضارة.
فالحكمة ليست في كثرة الكلام، بل في دقّته وموضعه،
وفي معرفة متى تكون الكلمة دواءً، ومتى يكون الصمت أبلغ.
⸻
الحديث مع الله
وأعلى مراتب الحديث، وأطهرها أثرًا، هو الحديث مع الله.
حديثٌ لا يحتاج إلى لغة، ولا تُقاس كلماته بعدد،
حديثٌ بين روحٍ منهكة وربٍّ كريم يسمع الهمس قبل النطق.
هو الحوار الذي يُعيدك إليك، ثم يرفعك فوق كل ما أثقلك.
في لحظة الدعاء، في ركعة السكون، في نجوى منتصف الليل،
تشعر أن الله وحده يفهمك بلا شرح،
ويُطمئنك بلا كلمات، ويُجيبك أحيانًا بصمتٍ يسكن القلب قبل السمع.
ذاك الحديث الذي لا يرفضه وقت، ولا يُؤجل،
هو العلاج الذي لا يُكتب في وصفةٍ طبية،
ولا يوصي به أحد، بل تولد إليه فطرة القلب حين يضيق العالم.
به تُشفى النفوس قبل الأجساد،
وبه يُستبدل الخوف يقينًا، والضياع سكينة.
ذلك الحديث هو الأمان المطلق الذي لا ينتهي.
⸻
حين تتكلم الأرواح
كلّ هذه الأحاديث، في الطوارئ وفي الحياة،
تؤكد لي أن الكلمة ليست مجرد صوتٍ، بل نبضٌ يُحسّ ويُجسّ.
هي التي تُعيدنا إلى أنفسنا، وتُرمّم ما انكسر فينا دون جراحةٍ ولا وصفة.
قد تكون الكلمة دعاءً، أو ابتسامة، أو وعدًا صادقًا،
لكنها حين تُقال من القلب، تُحدث فينا ما لا يُرى في الأشعة ولا يُكتب في التقارير.
ولهذا، رغم أنني لستُ من أهل الإطالة،
إلا أنني أُطيل الحديث حين يكون حياة.
أُطيله لأن في داخلي يقينًا بأن الدواء لا يسكن الصيدلية فقط،
بل أحيانًا في حوارٍ يوقظ فينا الطمأنينة.
⸻
إني أطيلُ حديثَنا إذ يبتدي
وأنا بطبعي لا أطيلُ كلامي
أستنطقُ المعنى بآخَرَ بعدَهُ
وأزيدُ كي أروي ظمأَ أيامي
فلتقبلي عُذرًا لِمَن في جوفِهِ
قلبٌ يُقَلَّبُ هائمٌ كهيامي
خيرُ الكلامِ أقَلُّهُ في مَذهبي
إلا حديثُكِ، ملجئي وسلامي.



