ما تراه ليس كما يبدو

بقلم : حنان سالم باناصر
كثيرًا ما نمر بمواقف نعتقد أننا فهمناها من أول وهلة، فنسرع إلى تفسيرها وإصدار أحكامنا عليها. غير أن ما يظهر للعين قد لا يكون سوى جزء صغير من صورة أكبر بكثير، وربما كان خادعًا في بعض الأحيان. ولعل أكبر خطأ نقع فيه هو أن نجعل من أنفسنا قضاة على الآخرين، فنطلق أحكامًا نهائية وننشرها بين الناس وكأنها حقائق لا تقبل النقاش، بينما هي في حقيقتها مجرد وجهة نظر محدودة تحجب عنا أبعادًا كثيرة.
وحين نتأمل الأمر نجد أن الإنسان غالبًا ما يرى زاوية واحدة من الموقف، ويغفل عن زوايا أخرى ربما تقلب المعنى رأسًا على عقب لو اطلع عليها. لذلك فإن التسرع في الحكم لا يظلم غيرنا فقط، بل يظلم فهمنا نحن للحقيقة. ومن هنا يأتي الفارق الكبير بين من يعيش الموقف فعلًا، فيتلمس تفاصيله وصعوباته، وبين من ينظر إليه من بعيد، فيراه بسيطًا ويظن أن الحل سهل ومباشر. كم من مرة قلنا: “لو فعلوا كذا لانتهت المشكلة”، ثم اكتشفنا لاحقًا أن هناك ظروفًا خفية تحول دون ذلك.
والأمر لا يقتصر على المواقف العابرة، بل يمتد إلى الأعمال والمشاريع. فإصلاح شيء مترهل ومليء بالأخطاء لا يشبه أبدًا بناء عمل جديد من الصفر، فالتعديل يحتاج صبرًا ووقتًا وجهدًا مضاعفًا. إدراك هذه الحقيقة يجعلنا أكثر إنصافًا وتقديرًا لمن يبذلون جهدهم في الإصلاح رغم صعوبة الطريق. ومع هذا، لا بد أن نضع في اعتبارنا أن ما يبدو لنا من أفعال الآخرين قد لا يعكس دائمًا حقيقة نواياهم، فقد تخفي وراء التصرفات نوايا صادقة أو ظروفًا قاهرة لا نعلمها.
ولأن الحقائق لا تنكشف دفعة واحدة، فإن الزمن كثيرًا ما يكون كفيلًا بإيضاح ما خفي علينا، فنفهم الموقف على حقيقته بعد أن كنا قد أسأنا الظن به. وهذا ما يؤكده ميزان الشرع، حيث قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]. وجاء عن النبي ﷺ قوله: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث” [رواه البخاري ومسلم]. فالتوجيه هنا واضح: لا تتعجلوا في الحكم، ولا تجعلوا الظن مرآةً للواقع.
وحين نطبق هذه المعاني في حياتنا اليومية، نجد أن الصبر والتفهم يمنحاننا راحة داخلية، ويبعدان عنا التوتر والاندفاع، ويجعلنا أكثر رحمة بالناس، وأكثر تقديرًا لجهود الآخرين من حولنا، وأوسع صدرًا تجاه الأفكار الجديدة. فبدل أن نرهق أنفسنا بانتقادات سريعة وأحكام قاسية، نصبح أكثر وعيًا بأن دورنا الحقيقي هو أن نمنح كل شيء فرصة للنمو، وأن ننشغل بما هو في متناول أيدينا من تغيير وإصلاح.
وفي النهاية، يبقى الدرس الأهم: ما تراه ليس كما يبدو. فالصورة أوسع من نظرتك وأعمق من حكمك الأول، وما تخفيه الأيام قد يغير قناعتك تمامًا. لذلك تمهّل، تفهّم، وامنح الحياة والناس والمشاريع من حولك فرصة ليظهروا لك حقيقتهم قبل أن تحكم عليهم.



