وشوشات الطوارئ..سلسلة “على عتبة العابرين “

بقلم :د. سوسن توفيق حنفي
سلسلة “على عتبة العابرين “
خفِّفِ الوطءَ ما أظنُّ أديمَ
الأرضِ إلاّ مِن هذهِ الأجسادِ
“أبو العلاء المعرّي “
بيتٌ فيه مسحة من التشاؤم، لكنه يذكّرنا بحقيقةٍ لا يمكن إنكارها:
أننا نسير فوق طبقات من الحكايات الإنسانية، وأننا مهما ارتفعنا، نظلّ مكوّنين من الطين ذاته، نحمل الوجع ذاته، ونرتجف من الخوف ذاته ، بين المظاهر والحقيقة ، في الطوارئ، تسقط كل الإضافات التي صنعناها حول أنفسنا، الرتب، المناصب، المظاهر، كلها تفقد معناها حين يُنادى المريض باسمه الأول فقط،
وحين يمدّ يده طلبًا للمساعدة دون أن يعني من يكون، ذلك التجريد القاسي يجعلنا نرى الإنسان كما هو
كائن بسيط، ضعيف في أصله، لكنه في الوقت ذاته مدهش في قدرته على التحمّل.
هنا لا فرق بين من جاء بسيارته الفارهة ومن أُحضِر على نقالة من الشارع،
فالجميع في لحظة الألم سواء،حتى الوجوه، رغم اختلاف الملامح، تتشابه حين تخاف،ونبرة الصوت تتوحد حين تتوسل النجاة.
كلهم يعودون إلى الأصل ذاته: إنسان يبحث عن طمأنينةٍ صغيرة في عالمٍ مضطرب.
وشوشات متعددة
وشوشات الطوارئ ليست كلها عن الألم.
هناك وشوشةُ رجاءٍ من طفلٍ يحدّق في والدته كأنه يطلب الأمان بعينيه.
وهناك وشوشةُ امتنانٍ من شيخٍ يبتسم بعد أن عاد إليه وعيه.
وهناك وشوشةُ ارتباكٍ من شابٍّ يُدرك للمرة الأولى أن جسده ليس قويًا كما ظنّ.
وأحيانًا وشوشةُ صمتٍ من مريضٍ يتأمل السقف طويلًا كأنه يحاور الله بصمتٍ لا يُفهم.
في كل زاويةٍ من الطوارئ حديثٌ خافت لا يُقال.
همسات تتناثر بين الأروقة والأنفاس، بين خطوات الممرضات وأوامر الأطباء وأصوات المرضى وذويهم،
كأن القسم بأكمله كائنٌ حيٌّ يتنفس ويُصغي في الوقت ذاته ، لغة لا تُقال بالكلمات
بعد سنوات من الوقوف في هذا المكان، صرت أعرف أن الألم له لغة،وأن الوجه يبوح بما لا يبوح به اللسان.
صرنا نقرأ وجوه المرضى كما يقرأ الشاعر القصيدة:
نرى الخوف في اتساع العين، والإنهاك في ميل الرأس، والرجاء في ارتجافة الشفتين.
كثيرًا ما يخبرنا الوجه بما لم يقله اللسان، فالمشاعر كالنور تتسرّب من أضيق الشقوق، وتفضح القلب ولو صمت صاحبه.فكم من نظرة قالت ما عجزت عنه الكلمات،وكم من صمتٍ أفصح عن وجعٍ لا يُروى،
حتى أصبحنا لا ننتظر العبارات لنفهم، بل نصغي إلى ما تقوله الملامح، وإلى ما تخفيه العيون حين تبوح في صمتها.
أحيانًا كثيرة نبدأ العلاج قبل أن ننتهي من السؤال، لأننا تعلّمنا أن نرى ما وراء العلامات الحيوية والأرقام.
أن نفهم ما لم يُكتب في الملف،و أن نُصغي إلى ما بين الأنفاس.
الطوارئ علّمتنا نوعًا من البصيرة لا تُدرّس في الجامعات،بل تُكتسب من الإنصات الطويل، ومن مجاورة البشر في أكثر لحظاتهم صدقًا.
دروس من وشوشات البشر
وشوشات الطوارئ لا تُخبرنا عن الضعف فقط،
بل تُعلّمنا أيضًا عن الكرامة، عن الصبر، عن الحبّ الصامت.
أرى أبًا يضع رأسه على يد طفله النائم يدعو له بصوتٍ خافت،وأمًّا تبكي بخوفٍ أن يُكشف حزنها وعجزها أمام ابنها، وزوجًا يقبّل جبين زوجته المصابة وكأنه يعتذر عن كل ما لم يُقل.
تلك اللحظات الصغيرة العابرة، هي ما يبقينا نحن الأطباء بشراً رغم الإرهاق.هي الوشوشات التي تُذكّرنا بأن عملنا ليس في الإنعاش فقط،بل في رعاية الإنسان بمعناه الأوسع: إنسانيته، و خجله، و ألمه، وكرامته.
حين يهدأ الضجيج ، عندما ينتهي الزحام وتخفت الأصوات،أجلس للحظة وأفكر: كم هو بسيط هذا الإنسان رغم كل تعقيده؟
كم نختلف في الظاهر ونتشابه في الجوهر؟
كلّنا نخاف، وكلّنا نحتاج إلى لمسة أمان،
وكلّنا نحمل في داخلنا قلوبًا تبحث عن العطف والرحمة قبل الشفاء.
أحيانًا أتخيل أن الطوارئ ليست مكانًا للطب فحسب، بل مختبرا للروح البشرية.
هنا تتكشّف الفطرة الأولى كما هي: بلا أقنعة، بلا مناصب، بلا تكلّف.
هنا أرى الإنسان كما خُلق أول مرة مدهوشًا من ضعفه، و ممتنًا لشفائه.
وشوشات الطوارئ لا تنتهي بانتهاء المناوبة،
بل تظل ترافقنا كذكرياتٍ حيةٍ تذكّرنا أننا لسنا سوى بشر.
علمتنا أن الأصل واحد، وأن الفروق بيننا ليست سوى ظلال عابرة، وأن الحياة مهما ازدحمت تبقى في جوهرها بساطةٌ نقية، كلّ يومٍ في الطوارئ يُعيد تعريف الإنسان بداخلي،
يُعرّيني من الصخب، ويُذكّرني أن الحقيقة أبسط مما
نظن،وأن الرحمة قبل الطب، وقبل العلم، وقبل كل شيء .
هي الوشوشة الأعمق التي تُبقي هذا العالم على قيد الحياة.
أغلق باب القسم خلفي بهدوء، وأشعر كأن الأصوات التي تركتها هناك ما زالت تهمس في أذني :
أنين، ضحكة خافتة، دعاءٌ ارتفع ولم يكتمل، وصوتُ جهازٍ لا يزال يصرّ على الحياة.
أسير في الممر الطويل فأرى الوجوه التي مرّت، كأنها أطياف تُلَوّح لي بالشكر أو بالعبرة.
أضع يدي على صدري، فأشعر بثقلٍ لطيفٍ يشبه الامتنان ، أدرك أن كل يومٍ في الطوارئ ليس مجرد عمل، بل تجربة إنسانية تذكّرني بأننا جميعًا نلتقي في النقطة ذاتها:
نقطة الخوف، ونقطة الرجاء، ونقطة الوعي بأننا بشرٌ متشابهون مهما تباينت طرقنا.
أمضي إلى الخارج، والليل ساكن، لكن داخلي ما زال مزدحمًا بتلك الوشوشات التي لا تُنسى .
وشوشاتٍ تذكّرني أن في البساطة جمالًا، وفي الضعف صدقًا، وأن سر لمعان الإنسان بنقاء أصله وجوهره مهما تعددت فوقه الأغلفة كما الألماس لا يفقد وهجه وإن غمرته طبقات الأرض، فالنقاء لا يُصنع، بل يُولد من أصلٍ لا يبهت.



