مقالات

استراتيجية المحاكاة صناعة الجاهزية وبوصلة القرار  

د.عبدالمعتني المزروعي

د.عبدالمعتني المزروعي

تُظهر التجارب أن المؤسسات التي تمتلك القدرة على مواجهة الأزمات المعقدة، واتخاذ القرارات الاستراتيجية الرشيدة، وتحسين جودة خدماتها دون تعريض سمعتها أو مواردها للمخاطر، تحقق مستويات متقدمة من الكفاءة والاستدامة.

ويُعد تمرين المحاكاة (Simulation Exercise) إحدى أبرز الأدوات التي أثبتت فعاليتها عبر عقود، في تمكين المؤسسات من تطوير جاهزيتها المؤسسية والارتقاء بأدائها نحو التميز.

تاريخيا، تعود جذور استخدام المحاكاة إلى بدايات القرن العشرين، حيث ظهرت أولاً في المجال العسكري لتدريب الجنود والضباط على الخطط القتالية دون المخاطرة بالأرواح أو الموارد

ومع تطور التكنولوجيا، توسعت لتشمل الطيران، والرعاية الصحية، وقطاع الأعمال والصناعة، وأصبحت اليوم أداة شاملة يمكن تكييفها مع مختلف القطاعات والمؤسسات وفق احتياجاتها.

يُعرَّف تمرين المحاكاة بأنه نشاط تدريبي يُصمَّم لمحاكاة مواقف أو سيناريوهات واقعية قد تواجه المؤسسة، ويُنفَّذ بأساليب متنوعة وفق منهجية علمية، تشمل المحاكاة الحاسوبية، وتمثيل الأدوار، والاختبارات الميدانية، إضافةً إلى توظيف تقنيات (AI)في تحليل البيانات وتوليد السيناريوهات الذكية، مما يتيح فرصة آمنة للتجريب واستشراف ردود الأفعال قبل التطبيق الفعلي.

لقد أثبتت التجارب والوقائع أهمية تنفيذ تمارين المحاكاة بشكل دوري وقياس مدى جاهزية المؤسسات واختبار كفاءة الخطط وسرعة الاستجابة. في مواجهة مختلف المواقف، وقد كشفت أزمة كورونا، كما ظهر جلياً في بعض الدول التي انهارت أنظمتها الصحية وقطاعاتها الحيوية، أن الخطط التي لا تخضع للتجربة والاختبارات والتقييم المستمر قد تفقد فاعليتها عند وقوع الأزمات، بحيث لا يكون تعاملنا مع أي أزمة أو حادثة بشكل عشوائي أو وفق نظام الفزعات والاستجابات غير المهنية.

ودائما تسعي المراكز المتخصصة في إدارة المخاطر واستمرارية الأعمال على دعم تطبيق هذه التمارين من خلال الأطر التنظيمية والبرامج التدريبية التي تمكّن المؤسسات من اختبار خططها ورفع جاهزيتها، فيما تدعم رؤية المملكة 2030 ترسيخها كأداة استراتيجية لإدارة المخاطر واستمرارية الأعمال، مما يعزز ثقافة الجاهزية والمرونة المؤسسية على المستوى الوطني.

وتشير إحصاءات جمعية تنمية المواهب الأمريكية (ATD) في تقرير 2019،”إلى أن نحو75 %من المؤسسات حول العالم باتت تستخدم المحاكاة التقنية، و87 %تعتمد المحاكاة غير التقنية، بينما وصلت نسبة98 %من المؤسسات التي تدمج أسلوب “التعلم بالسيناريوهات” في برامجها التدريبية، لما له من أثر مباشر في رفع كفاءة الموظفين وجودة القرارات”.

وفي اليابان تُنفَّذ تدريبات محاكاة للمخاطر والكوارث على المستويات الوطنية والمحلية ضمن إطار قانون إدارة الكوارث، وتهدف إلى رفع جاهزية المدارس والطلبة والمجتمع. كما تُشرك منظومة التعليم المدرسي الطلاب والمعلمين وأولياء الأمور في تدريبات تحذيرية وسيناريوهات إخلاء لتعزيز الاستعداد للمخاطر والكوارث المتكررة.

وأظهرت دراسة محلية حديثة (Al-Otaibi, 2024) أن 75 % من برامج العلاج التنفسي في المملكة تستخدم المحاكاة، وأجمع 100 %من مديري البرامج على ضرورة توسيع الاعتماد عليها في المناهج التعليمية. وبعض الدراسات المحلية في المجال التعليمي، التي أُجريت في نهاية عام 2023 ونُشرت في يناير 2025، تشير إلى أن نسبة عالية ليس لديهم إلمام علمي، ولم يتلقوا برامج تدريب عن المحاكاة، مع إظهار موافقة نسبة كبيرة على أهميتها..

ورغم وضوح فوائدها واقتناع الإدارة العليا بأهميتها، إلا أن بعض منسوبي المؤسسات قد يتعاملون معها بشيء من التحفّظ، وهو أمر طبيعي عند مواجهة أي أسلوب جديد.

لكن مع التوضيح وإبراز الأثر المباشر لتمارين المحاكاة في رفع مستوى الجاهزية وجودة الخدمات ودعم متخذي القرار، يتحول هذا التحفّظ تدريجيًا إلى قناعة وحماس، خاصة حين يدرك الموظف أنها أداة عملية تساعده شخصيًا على الاستعداد والتعامل بكفاءة مع مختلف المواقف. وقياس كمؤشر للخطط التشغيلية.

وتتيح المحاكاة للمؤسسات فحص كفاءة العمليات، والكشف المبكر عن أوجه القصور (Gaps) ومعالجتها، إضافةً إلى رفع قدرات الكوادر الإدارية والفنية عبر سيناريوهات متعددة للتكيف مع متطلبات العمل المتغيرة. وتسهم أيضا في توفير بيئة آمنة لاختبار الخيارات واستباق النتائج قبل تطبيقها على أرض الواقع.

ومن خلال تحليل السيناريوهات وتقييم البدائل في ظروف تحاكي المواقف الفعلية، يتمكن صانعو القرار من التنبؤ بالعواقب المحتملة وتقليل المخاطر، مما يعزز دقة وفاعلية القرارات المتخذة.

كما تساهم المحاكاة في تنمية التفكير الاستراتيجي، وتمكين القيادات من التعامل مع المواقف المعقدة والمتغيرة بكفاءة، وبهذا، تصبح القرارات مبنية على أسس علمية وتجارب عملية، ولا يقتصر أثرها على ذلك، بل ينعكس تطبيقها على تطوير بيئة العمل وتعزيز ثقافة التعلم المستمر والتطوير الذاتي، إلى جانب تحفيز الإبداع في إيجاد حلول عملية للتحديات اليومية.

إذا أردت لمؤسستك أن تتبوأ موقع الريادة وتحوّل الأزمات والمخاطر إلى فرص، فإن المنهج الاستراتيجي للمحاكاة يتجسد في “قرار اليوم الذي يصنع انتصار الغد” (Decision Today, Victory Tomorrow)، مبدأ يؤكد أن المستقبل لا يُنتظر بل يُصنع بالاستعداد والتخطيط الواعي.

قوة الكلمة بين التتويج والخذلان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى