طفولة بلا دفء


بقلم: د. هنيدة بنت نزيه قدوري
تعجبتُي كثيرًا من مواقف شاهدتُها لأطفالٍ في مدن الألعاب الترفيهية، فوجدتُ ذات مرة طفلًا يعاني من صعوبة في الكلام، وكلماته غير مفهومة، تُرِك وحيدًا في مدينة الألعاب المغلقة من الساعة الحادية عشرة صباحًا وحتى الخامسة عصرًا، دون أدنى اهتمام من والديه باحتياجاته الأساسية. فوجد في اهتمامي به ملجأً لتعويض غيابهما عنه.
وأجد طفلةً أخرى تطلب مني أن أُشاهدها أثناء اللعب، وتشجعها، وتدعمها، وتحتضنها، وأخرى ترغب في مرافقتي أثناء اللعب؛ لعدم رغبتها في اللعب مع المربية التي ترافقها. ومشاهد كثيرة لأطفالٍ شعروا بحجم الفراغ الناتج عن غياب كثير من الآباء والأمهات في زحمة الحياة المعاصرة.
فنجد الآن في معظم البيوت غياب الوالدين أو أحدهما عن حياة أبنائهم، سواء بالبعد العاطفي أو الانشغال بالعمل؛ فالأب يسعى لتلبية الاحتياجات المادية للطفل، وينسى أن أبناءه في حاجة إلى الشعور بالدعم والاستقرار والأمان والانتماء إلى الأسرة والمجتمع، أما الأم فتسعى إلى الاستقلال المادي، والتطوير المهني، وبناء العلاقات الاجتماعية، فيكون الوقت المتاح للبقاء مع أبنائها قصيرًا جدًا، فلا تستطيع التعرف على مشاعرهم أو احتياجاتهم أو سلوكياتهم الخاطئة لتصحيحها، أو مهاراتهم وقدراتهم المتميزة لتعزيزها.
وتكون الوسيلة المستخدمة للتعويض عن الغياب والإهمال العاطفي لهم هي الإغداق عليهم بالهدايا، اعتقادًا بأن الهدايا هي المطلب الأساسي لهم. ولكن الغياب لا يُقاس بالمسافة أو بالزمن، بل يُقاس بمدى حضورهم في وجدان أبنائهم؛ فغياب الوالدين لا يخلق فقط فراغًا جسديًا، بل فراغًا داخليًا يبحث عمَّن يملؤه، مما يجعل الطفل أكثر قلقًا وخوفًا من الفقد والغياب والتعلق، وأقل ثقةً وأكثر انعزالًا، فيبحث عن الاهتمام في أماكن أخرى، مما يزرع برودةً في العاطفة، وضعفًا في الأمان الداخلي، وتتكوَّن لديه قناعة خفية بأن الحب مشروط، وأن الحضور أمرٌ يُطلب ولا يُمنح. فتمتد آثار الغياب إلى سلوكياتٍ دائمة ترافقهم، وتؤثر على قدرتهم في بناء علاقاتٍ صحية في المستقبل.
فحضور الوالدين ليس وقتًا بل أثرًا؛ فالمطلوب من الوالدين قضاء ساعاتٍ غير طويلة بجانب أبنائهم، تترك أثرًا عاطفيًا حقيقيًا في كل لحظة يقضونها معهم، من نظرة اهتمام، وكلمات دعم، وعناقٍ دافئ قبل النوم، والتعبير عن الحب بالكلمة والابتسامة واللمسة، والإصغاء إليهم بصدقٍ حين يتحدثون، وتخصيص وقتٍ يومي ولو قصير للمشاركة واللعب، وترك الأجهزة وكل ما يحجب التواصل الإنساني الحقيقي داخل البيت.
كلها تفاصيل صغيرة ولكنها تبني جدار الأمان النفسي لدى الطفل؛ فالطفولة مرحلة لا تُعاد، وما يُزرع فيها يبقى أثره مدى الحياة. والحضور الحقيقي هو أن يشعر الطفل بأنه مرئي، مسموع، ومحبوب بلا شروط.
فالدفء العاطفي ليس رفاهيةً تربوية، بل هو الأساس الذي تُبنى عليه شخصيةٌ متزنة، وقلبٌ مطمئن، وعقلٌ سوي. فكل لحظة دفءٍ تمنح الطفل شعورًا بالطمأنينة، وتزرع في قلبه يقينًا بأن الحب لا يغيب حتى لو غاب الجسد.
فليكن غيابنا مبررًا بالضرورة، لا عادةً بالتقصير، ولنجعل أبناءنا يشعرون أننا معهم دائمًا، حتى وإن غبنا عن أعينهم؛ لأن أعظم هديةٍ نهديها لهم هي “الحضور بكل معانيه”.