مقالات

مَهْمَا بَلَغَ المَدَى

عَائِشَةَ الجُهَنِي

عَائِشَةَ الجُهَنِي

سَأظَلُّ ذَاكَ القَوِي…

فِي زَحْمَةِ الحَيَاةِ وَتَعَاقُبِ الأَيَّامِ، قَدْ تَزْدَادُ المَسَافَةُ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَأَحْلَامِهِ، وَتَتَّسِعُ الهُوَّةُ بَيْنَ الوَاقِعِ وَالطُّمُوحِ. قَدْ يَخْتَبِرُ القَدَرُ صَلَابَتَهُ بِالعَثَرَاتِ، وَيَعْصِفُ بِهِ الحُزْنُ تَارَةً وَالخِذْلَانُ تَارَةً أُخْرَى. لَكِنَّ مَا يُمَيِّزُ الإِنْسَانَ الحَقِيقِيَّ هُوَ تِلْكَ القُوَّةُ الدَّاخِلِيَّةُ الَّتِي لَا تَهْتَزُّ، حَتَّى حِينَ تَشْتَدُّ عَلَيْهِ المِحَنُ.

القُوَّةُ الحَقِيقِيَّةُ تَكْمُنُ فِي الإِيمَانِ بِالذَّاتِ. إِنَّهَا تِلْكَ الخُطْوَةُ الوَاثِقَةُ وَسْطَ دُرُوبِ الشَّكِّ وَالخَوْفِ. أَنْ تَظَلَّ قَوِيًّا، يَعْنِي أَنْ تُؤْمِنَ أَنَّ كُلَّ وَجَعٍ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ دَرْسًا، وَكُلَّ فَشَلٍ هُوَ بِدَايَةٌ لِحِكَايَةِ نَجَاحٍ تَنْتَظِرُ أَنْ تُرْوَى.

حِينَ يَقُولُ المَرْءُ “سَأظَلُّ ذَاكَ القَوِي”، فَإِنَّهُ يَخْتَارُ أَنْ يَقِفَ رَغْمَ الرِّيَاحِ، أَنْ يَنْهَضَ بَعْدَ كُلِّ سُقُوطٍ، وَأَنْ يَمْضِيَ بِقَلْبٍ لَا يَعْرِفُ الِانْكِسَارَ. هِيَ لَيْسَتْ مَجَرَّدَ كَلِمَاتٍ، بَلْ عَهْدٌ يُقِيمُهُ مَعَ نَفْسِهِ أَلَّا يَسْمَحَ لِلظُّرُوفِ أَنْ تُطْفِئَ جَوْهَرَهُ النَّقِيَّ، وَلَا لِلنَّاسِ أَنْ تُعِيدَ تَشْكِيلَ مَلَامِحِهِ عَلَى أَهْوَائِهِمْ.

القُوَّةُ لَيْسَتْ غِيَابَ الضَّعْفِ، بَلْ القُدْرَةُ عَلَى تَجَاوُزِهِ.

أَنْ أَكُونَ قَوِيًّا لَا يَعْنِي أَنِّي لَا أَتَأَلَّمُ، بَلْ أَنِّي أَمْتَلِكُ الإِرَادَةَ لِأُدَاوِيَ جِرَاحِي وَأَبْتَسِمُ رَغْمَ النُّدُوبِ. القُوَّةُ أَنْ تَنْهَضَ كُلَّ مَرَّةٍ يَسْقُطُ فِيهَا الحُلْمُ، وَتُعِيدُ بِنَاءَهُ بِحِجَارَةِ الأَمَلِ، لَا بِاليَأْسِ. أَنْ تَرَى فِي كُلِّ خَسَارَةٍ دَرْسًا، وَفِي كُلِّ عَثْرَةٍ مَعْنًى، وَفِي كُلِّ فَشَلٍ فُرْصَةً.

فِي عُمْقِ المِحَنِ، حِينَ يَخْذُلُكَ مَنْ وَثِقْتَ بِهِ،  أَوْ تَتَعَثَّرُ خُطُوَاتُكَ، هُنَا يَعْلُو صَوْتٌ يَهْمِسُ:

“مَا زِلْتُ هُنَا… وَسَأظَلُّ قَوِيًّا.” هَذِهِ اللَّحْظَةُ هِيَ الِامْتِحَانُ الحَقِيقِيُّ.

أَنْ تَقُولَ: “سَأظَلُّ ذَاكَ القَوِي”، هُوَ قَرَارٌ.

قَرَارٌ أَلَّا تَتْرُكَ مَاضِيَكَ يَحْكُمُ مُسْتَقْبَلَكَ. قَرَارٌ أَنْ تُحَارِبَ السُّكُونَ بِالإِنْجَازِ، وَالخَوْفَ بِالشَّجَاعَةِ، وَالتَّرَدُّدَ بِالإِرَادَةِ. القُوَّةُ مَوْقِفٌ، وَمَسَارُ حَيَاةٍ، وَاخْتِيَارٌ مُتَجَدِّدٌ كُلَّ يَوْمٍ.

وَالمَشْوَارُ مَهْمَا طَالَ وَامْتَدَّ، هُوَ مَجَرَّدُ طَرِيقٍ.

لَيْسَ مَا يَهُمُّ كَمْ بَلَغَتِ المَسَافَةُ، بَلْ كَيْفَ مَشَيْتَهَا. كَمْ مَرَّةً نَهَضْتَ، لَا كَمْ مَرَّةً تَعَثَّرْتَ.

فِي النِّهَايَةِ، قَدْ يَطُولُ الطَّرِيقُ، وَقَدْ نَصِلُ إِلَى مَدًى لَمْ نَكُنْ نَتَخَيَّلُهُ يَوْمًا، لَكِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى المَبْدَأِ، وَالإِصْرَارَ عَلَى التَّقَدُّمِ، هُمَا مَا يَصْنَعَانِ الفَارِقَ. فَكُنْ ذَاكَ القَوِيَّ. ذَاكَ الَّذِي لَا يُقْهَرُ، لَا لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، بَلْ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَسْقُطُ، يَعُودُ أَقْوَى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى