عاشق خجول


يعقوب السعيدى
كُل أسفاري كانَت محفوفَة بالتَّعَب، بالوداع، بالغُربَة، بالشَّتات.. إلَّا سفَرَاً واحِداً، انتشَلَني من التَّعَب إلى الرَّاحة، ومن الوداع إلى اللقاء، ومن شعور الغُربَة إلى الأُنس، ولملَمَني من مُنحدرات الشَّتات السَّحيقَة مُرَمِّماً إياي.. اتحدَّث عن سفر الذَّات إلى الذَّات، سفَري الَّذي حمَلَني إلى عينَيكِ، كان سفراً يتخطَّى حدود الإدراك والقُدرة البشَريَّة على التخَيُّل، لنَقُل بأنَّه كان ميلاداً جديداً لحُقبَةٍ زمنيَّةٍ جديدةٍ في حياتي البائسة، هذا السَّفر فيه نوع من التشابه الَّذي يجمعه برحلة “جلجامش” العظيم للبحث عن عُشبة الخلود، كلانا كُنَّا نبحث عن الحياة، هذه المرة لم يكن هناك ماسماه “جلجامش” عشبة الخلود؛ عيناكِ هُما سر الخلود.
كان الطَّريق إلى عينيكِ مُضاءً كما ينبغي ليَضمَن لي سلامَة الوصول إليهما ومُضلِماً بما يَكفِي ليَمنَعَني من رؤية سواهما، غَير أنِّي كُنت أسير على الطَّريق مُترَنِحاً، مِثلِي مِثل أيّ عاشقٍ خائف، لم أكن املك الشجاعة الكافيَة الَّتي تُمكِّنُني من الوصول وفي الوَقت ذاته لم أكُن جباناً حدَّ التراجُع. بقيت عالقاً، تأكُلُنِي الحيرة وأنا اُردِّد مع “عبدالمجيد عبدالله”:
انا مُستَحِي مِنَّك
اقولك حبيتَك
و خايف ما لاقي قبول
مُحتار في أمري ولا ادري ويش أقول
غير نظرة الإعجاب ارسلها رسول.
أيَّتها العشرينيَّة الفاتنة، عصفورة أنتِ، غير أنّ ملامِحُكِ المدَنيَّة والمعجونة بغُبار الرِّيف أعذَب من العصافِير وأجمل. رُبَّما وكضرورَةٍ حتميَّة أنا بحاجةٍ إلى أبجَديَّةٍ جديدَةٍ ومُبتكرة لها القُدرَة على حَمل الكلِمات الَّتي لطالما رَغِبت في قولها لكِ، الحقيقة أنِّي لا أعلم ما إذا كان يجِب أن اُقدِّم حروفي لكِ في كوبٍ من الفلسَفة أو في كوبٍ من البلاغَة، تُرى، ماذا تُفضِّلين؟
إن عينيكِ وهُما تطوِّحان بي في عوالم الحُسن وتعرجان بقلبي إلى ملَكوت الحُب، خلقتا منِّي راهباً في صومعة عشقكِ وصوفيَّاً في محراب الهوى، عيناكِ كانتا الصَّلاة الَّتي تنتَشِلُني من مُستنقعات الشَّقاء والصِّراط الَّذي يوصِلُني إلى النَّعيم. إنَّني وقَبل أن اهتَدي إلى عينَيكِ عشت اتخبَّط في وَحل الضَّلالة وطُرُقات الغواية. عابثاً، لاهياً، دون وجهةٍ ولا مقصَد، قضَيت كُل هذه السَّنوات، تلازمني رغبة أجهل ماهيتها، ويرافقني الشعور بالحاجة لشيءٍ مجهول لم يتسنَّى لي معرفته بعد والوقوف على حقيقته غير أنِّي أعرف مصدره المُتمَثِّل بالفراغ الكائن في أعماق الروح، ومُذ اصطدمت عيناكِ بقلبي امتلأ هذا الفراغ، عرَفت حينها أنَّي عثرت على طريق الهداية أخيراً.