مقالات

ربيعٌ في الأرض والسماء.. ربيع في العالم

بقلم: د. ابتهال بنت حسن بن عزوز

بقلم: د. ابتهال بنت حسن بن عزوز

هل يُتصوَّر عقلًا أن تكون في مكان ما على هذه الأرض، ثم تعرج باطمئنان إلى عنان السماء، ثم تطوف بين البلدان والقارات في الزمن نفسه، لا يحدُّك أيُّ مدى، ولا يقيُّدك أي أفق؟!..
تعلو وتعلو فيصغرُ كل شيء حتى تشعر كأنك قد انتزعتَ نفسك من كل مشاكلك وأعبائك وأحزانك ونسيتها كلها كأن لم تكن، فإذا بك قد سموتَ عن طين الأرض إلى مراقي السماء، ليس خوفًا بل أمنًا، وليس ضعفًا بل تمكنًّا؟!
أنت إذْ ذاك في ذرى السماء، وجسدك على يابسة الأرض، كأنك العابد المتبتل خاشعًا في غار الجبل، أو الناسك الزاهد قانتًا في خلوة المحراب، بين ثباتك وانكسارك، بين أمَلِك وألمك، بين دمعك الذي كان عصيًّا ثم صار سخيًّا..
حسبك أن تسمع ما يُتلى:
﴿طه ۝ ما أَنزَلنا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقى ۝ إِلّا تَذكِرَةً لِمَن يَخشى ۝ تَنزيلًا مِمَّن خَلَقَ الأَرضَ وَالسَّماواتِ العُلَى ۝ الرَّحمنُ عَلَى العَرشِ استَوى ۝ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ وَما بَينَهُما وَما تَحتَ الثَّرى ۝ وَإِن تَجهَر بِالقَولِ فَإِنَّهُ يَعلَمُ السِّرَّ وَأَخفَى ۝ اللَّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ لَهُ الأَسماءُ الحُسنى﴾ [طه: ١-٨].
ولعلك تقول كما قال قائلهم: “إنَّ له لحلاوةً وإنَّ عليهِ لطلاوةً وإنَّهُ لمثمرٌ أعلاهُ مغدقٌ أسفلُهُ وإنَّهُ ليعلو وما يُعلَى”، فما تريد من حظوظ الدنيا شيئًا غير أن تُنَعَّم في كنف هذا الجلال الفريد، ومنه تستزيد.
نعم فأنت في المملكة العربية السعودية في مكة، في مقرأة جامعة أم القرى، التي تقدِّم إقراء القرآن الكريم وتصحيح تلاوته للمسلمين من أقطاب العالم أجمع، إذ يقرؤون على اختلاف لغاتهم كلام الله بلسان عربي مبين، وبصوتٍ شجيٍّ، وجَرْسٍ نديٍّ، يأخذ بمجامع القلب، ويستأثر بمكامن اللب؛ فإذا بالسامع يسبح في أفلاك التدبر؛ فهو الراجي مع آيات نعيم أهل الجنة، وهو الخائف مع آيات عذاب أهل النار، وهو المعتبر مع أخبار الأمم السابقين، وهو المتأمل مع آيات الله في الكون، وهكذا ..
إنَّ القلوب في مقرأة جامعة أم القرى لَتجتمع كطوق جُمانيٍّ رفَّافٍ، يضم دررًا مواطنها متباينة مِن قارات العالم، ضمّهم كتاب الله العظيم عبر أثير المقرأة ملتحمين متوادِّين، وقد اخضوضرت أفئدتهم بنداوة التراتيل، فإذا بالربيع يزهر في الأرض، ويتنامى إلى السماء؛ لِيتوَشَّح العالم كله عباءة الربيع القرآني.
ومما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” أن تَجْعلَ القُرْآنَ ربيع قلبي، ونُور صَدري، وجِلاءَ حُزْني، وذَهَاب همِّي وغَمِّي”.
قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد:
” قولُهُ: أنْ تجعل القُرآن ربيعَ قلبي ونورَ صدري، الربيعُ: المطرُ الذي يُحيي الأرض؛ شبَّه القرآن به لحياة القلوب به، وكذلك شبَّهَهُ الله بالمطر، وجمع بين الماء الذي تحصُلُ به الحياةُ والنور الذي تحصل به الإضاءة والإشراق، ولما كان الصدرُ أوسع من القلب؛ كان النورُ الحاصلُ له يَسرِي منهُ إلى القلب؛ لأنَّه قد حصل لما هو أوسعُ منه.
ولما كانتْ حياةُ البدنِ والجوارح كلِّها بحياة القلب، تَسرِي الحياةُ منه إلى الصدرِ ثم إلى الجوارح؛ سألَ الحياة له بالربيع الذي هو مادتُها.
ولما كان الحُزْنُ والهمُّ والغمُّ يُضادُّ حياة القلبِ واستنارتَهُ؛ سألَ أن يكون ذَهابُها بالقرآن؛ فإنَّها أحرى أن لا تعود.”
إنَّ الشكر بعد شكر الله تبارك وتعالى على ربيع المقرأة العالميّ ليُزجى لولاة أمر هذه البلاد المباركة على جهودهم الجزيلة في خدمة وتعليم كتاب الله لأبناء الوطن وللوافدين، بل وللمسلمين في أقطاب المعمورة، ثم الشكر للساعين الباذلين جهدهم في التنظيم والمتابعة والإقراء من جامعة أم القرى، جزاهم الله خير الجزاء وبارك أعمالهم وأعمارهم.
أسأل المولى العلي القدير أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجِلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، والحمد لله على أفضاله وآلائه.

نلمسها ولا نلمسها !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
💬