مقالات

الرصانة والحرية: مقاربة للحب الحقيقي وعلاقات القلب المستنيرة

د. آمال بوحرب تونس

د. آمال بوحرب تونس

فكرت كثيرًا قبل أن أكتب هذا المقال ولكن رأيت أن السكوت عن الجهل جهل آخر ولهذا أردت أن أقول إن العلاقات الإنسانية بطبعها إشكالية وجودية تتعرض لتغيرات كثيرة في تعريفها فلا يجوز القول بأنها مجرد تلاقي أجساد أو تبادل كلمات إنها مسار معقد يختبر عمق الذات وصدقها ومساحة لتجربة الحرية الالتزام والفهم المتبادل بين البشر من خلالها تتشكل المرايا التي تعكس دواخلنا فتتجلى المشاعر النبيلة والوعي العاطفي ويتسنى لنا اختبار القدرة على التقدير والوفاء.

إن الحب والصداقة والروابط الإنسانية عندما تُبنى على وعي وتجربة مستمرة تتحول إلى تجربة حياة متكاملة تتجاوز اللحظات العابرة لتمنح الحياة معنى وعمقًا دائمًا فالخطر يكمن في الخلط بين الحب الحقيقي والانجراف وراء اللحظات العابرة ما يضلّل النفوس ويجعل البعض يظنّ أن الرصانة تحد من القدرة على الحب أو الإبداع.

في الواقع الرصانة هي الحب الحقيقي جناح الحب الحرّ الذي يسمح للقلب بالإبحار في عمق الآخر دون أن يغرق أو يفقد ذاته إنها تبعد عن اللحظات الآنية العابرة وتمنح العلاقة وعيًا متبادلًا صبرًا على الاختلاف مشاركة حقيقية وإبداعًا مستمرًا فتتحول إلى تجربة حياة متكاملة يشهدها الزمان ويثني عليها التاريخ والأدب والفلسفة.

لقد عاش جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار حبهما كمسار ناضج مشروعًا مفتوحًا على الحرية والاحترام المتبادل تجاوز نزوات اللحظة ومنح كل طرف مساحة ليكون نفسه بالكامل ،دون أن يغيب الوفاء أو الشغف وفي الأدب الروسي نجد شواهد قوية على هذا العمق في رواية آنا كارينينا لتولستوي تظهر هشاشة العلاقات المبنية على الانجذاب اللحظي بينما الحب ،المبني على الصبر الاحترام والفهم المتبادل كما في علاقة كونستانتين وكتاباته الداخلية مع زوجته يظهر استمراريته وقوته رغم كل تحديات الحياة أما في أعمال دوستويفسكي مثل الأخوة كارامازوف فإن الصراعات الداخلية للشخصيات تكشف أن الحب الحقيقي لا يُقاس باللحظات المثيرة بل بالقدرة على التضحية التسامح والوعي العميق بالآخر.

ولعل التجارب الواقعية تؤكد ذلك أيضًا الأزواج الذين يضعون الاحترام والتفاهم قبل الرغبات العابرة يخلقون لغة عشق متجددة تتجاوز حدود الوقت والمكان كل كلمة صادقة كل فعل صغير من التفهم والمشاركة يتحول إلى نص شعوري حيّ يحمي العلاقة ويجعلها تنمو بلا انطفاء.

هناك من يرى أن الرصانة برود عاطفي أو جنسي وهذا اعتقاد خاطئ كبير إذ إن الرصانة هي أعلى درجات الوعي في الحب تمنح العلاقة القدرة على الاستمرارية والعمق وتعيد صياغة الشغف بطريقة واعية ومستدامة كما تؤكد التجارب الواقعية والفلسفية والأدبية على مر العصور.

فالرصانة إذن ليست تقييدًا بل جناح الحب الواعي الذي يحرّر القلب ويتيح له الإبحار في أعماق العلاقة دون أن يفقد ذاته فتتسع المساحة لكل مشاعر الإبداع والرومانسية والالتزام المستمر ليصبح الحب تجربة حياة حقيقية متكاملة تحظى بإعجاب التاريخ والأدب والفلسفة.

ولكن نحن لسنا ملائكة نحن بشر كذلك وحواسنا والجسد لها احتياجات كما قال فرويد “فكل رغبة طبيعية كالحاجة إلى الطعام أو النوم أو الاسترخاء لها وجودها وغريزتها الفطرية “المشكلة تكمن في عدم القدرة على ضبطها فتفسد علينا مفاهيمنا واحتياجاتنا كم من رجل يهرب إلى علاقة خارجية بينما الحب والوفاء متاح أمامه وكم من امرأة تبحث عن العاطفة خارج بيتها رغم ما لديها من روابط صادقة .

المشكلة تكمن في القدرة على ضبط الرغبات، والتحكم فيها مع الوعي بالقيم مثل الوفاء للطرف الآخر 

وهي ما يميز الحب الناضج عن الانجراف وراء نزوات اللحظة وهي الطريق إلى علاقة متكاملة

 وصحية قائمة على احترام الذات والآخر .

وأخيرًا يحب أن نعيد دراسة مفاهيم الشغف والحب والعشق والصداقة بطرق حديثة وإنسانية فإنسان هذا القرن كما كان الإنسان في القرون الوسطى أو مع بدايات الخلق مر بكل هذه الأحاسيس ولكنه عبر عنها بطرق مختلفة وصلت إلينا عبر حضارات متعاقبة ووارث معرفي غني لذا علينا أن نستقي من تلك ،التجارب والحِكم ونعيد صياغة فهمنا للعلاقات الإنسانية بما يتوافق مع وعي الإنسان المعاصر ليكون الحب والصداقة والعشق مسارًا للحياة لا مجرد لحظات عابرة ومساحة للإبداع والوعي والالتزام المتبادل ولعلي هنا اذكر قال الكاتب “باولو كويلو “الحب هو القدرة على إدراك الآخر كما هو وليس كما نريد أن يكون.

أيها الوطن الوسيم

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى