نور في أعماقنا


بقلم :حنان سالم باناصر
في زحمة الحياة وتشابكها، لا تكفي العيون وحدها لتقودنا في دروب الحقائق، فالعين ترى ما يظهر على السطح، أما البصيرة فهي النافذة إلى أعماقنا، تكشف ما وراء الأشكال والكلمات، وتضيء لنا مسالك أنفسنا والآخرين من حولنا. إنها ذاك النور الداخلي الذي يسكبه الله في قلوبنا، ليعيننا على الاختيار الصائب، والفهم العميق، والعيش بسلام واتزان.
تبدأ بصيرتنا من التأمل في آيات الله، ومن تدبر القرآن الكريم وفهم مقاصد الشريعة، ومن النظر في بديع صنع الخالق في السماوات والأرض. فكلما انغمسنا في هذا التدبر انكشف لنا الطريق، واهتدينا إلى اليقين، مصداقًا لقوله تعالى: “قد جاءكم بصائر من ربكم”، فهي دلائل ليست للعيون وحدها، بل للعقول والقلوب أيضًا، لتقودنا نحو النور والهدى.
ثم تمتد البصيرة داخلنا، فلا تكتفي بتوجيهنا نحو العالم الخارجي، بل تعيدنا إلى أعماق أنفسنا، لتكشف لنا ما في القلب من مزايا وعيوب، فتعلّمنا كيف نحتضن نقاط قوتنا ونهذب ضعفنا، لنمضي في حياتنا بوعي واتزان. ومن خلالها ندرك الآخرين بشكل أعمق، فنتعلم ألا ننخدع بالمظاهر، ولا نُسقط قلوبنا في فخ الأقنعة، فهي تميّز بين الصديق المخلص والمتملق، وبين المحبة الصادقة والكلمة المبطنة بالشر. وكم منّا خسر قلوبًا صافية لعدم إدراك قيمتها، بينما التصق بوجوه زائفة ظنها وفاءً وسندًا.
ولنا في سير الأنبياء والصالحين دروس خالدة؛ فقد كان النبي ﷺ في صلح الحديبية يرى ببصيرته ما لم يره أصحابه، إذ بدت الشروط ثقيلة على نفوسهم، لكنه نظر إلى أبعد من ظاهرها، فكان في الصلح فتح ونصر وانتشار للدعوة. وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي شهد له النبي ﷺ بقوله: “إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه”، فبصيرته كانت مصباح عدلٍ وميزان حق.
أما من يغفل عن بصيرته، فإنه يعيش غريبًا حتى عن نفسه، يتخبط في ظلام داخلي، يرى الحق باطلًا والباطل حقًا، وقد يُنَفِّر أحب الناس وهو يظنهم أعداءً، ويقرب أعداءه وهو يحسبهم أصدقاء. فيعيش أسير الغشاوة، يخسر أثمن ما يملك، ويستيقظ على وحدة موحشة رغم ازدحام الوجوه من حوله.
إن البصيرة نعمة ربانية لا يهبها الله إلا لمن شاء من عباده، وهي سرّ من أسرار الهداية التي تفتح لنا عيون قلبنا قبل عيون رأسنا. ومن أُوتينا البصيرة فقد مُنحنا خيرًا عظيمًا.
اللهم ارزقنا البصيرة، وأعنّا على شكرك وحسن عبادتك كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.