حيرة وشتات

يحدُث أحياناً أن يغرَق المرء في الحيرَة والتيه لدرجَة أنَّه يشعُر بالغُربَة التَّامَة، غُربَة الروح، غُربَة المكان، غُربَة الرِّفاق، غُربَة يفقِد معها القُدرَة على الإختيار، يفقِد القُدرَة على استبصار الأمور، يفقِد القُدرَة على التفريق بين مايريده ومالا يريده، إن سار فيسير من غير وجهة، وإن وقف وقَف وهو لايعرِف لماذا وقَف، يسأل نفسه عَن حقيقَة كينونته، عَن سبب وجوده هُناك، عَن فراغه المُمتلئ وعن امتلائه الفارِغ، يُريد مواصلة السّّير ولكِنَّه يخاف من أن يكون سيرَه في الإتِّجاه الخطأ، يُريد الوقوف ولَكِنَّه يخاف من أن يكون الوقوف خطأ، يُريد العودَة ولَكِنَّه يخاف من أن تكون العودَة خطأ، يتلبَّسه الشعور بالخطأ والخطيئة، الخطيئة الَّتي لايعرِف ما إذا كان قد عاقرها أم أنَّها لم تكُن إلَّا مَحض أوهام وُلِدَت من رحم خياله، يمطِر نفسه بالأسئلة ثُم يُغادر وسلّّة روحه خاليَةً من أيِّ إجابَة. يتمنَّى أن يَنسَلِخ عَن ذاته، أن يصبح وذاته شخصَين مُختَلِفِين؛ ليُرشِد كُلَّاً منهُما الآخر، يتمنَّى لو أن أحداً يُساعِده في إيجاد نفسه، لو أن أحَداً يُشارِكه الطَّريق، لو أن أحداً على الأقل يقِف معه قليلاً ليُرشِدَه أين يتوجَّب عليه أن يتَّجِه، وكَيف يجِب أن يسير، وإلى أين يجِب أن يَسير، ولأنَّه يعلَم أن أحداً لَن يجرؤ على الإقتراب منه في حالته هذه تُحَدِّثه نفسه أن يرتمي في حُضن أحدِهم ويبكي حتَّى يُغادر هذا الشعور المؤلم، يشتَكي إليه هذا التوَجُّس وهذه الحيرَة، يَطلُب منه أن يَدُلَْه على الطَّريق، أن يمسَح بأصابع كلماته على رأس قلبه حَتَّى تُغادره هذه الوحشَة ويطمَئن قلبه وروحَه، ولَكِنَّه لايعرِف في أيِّ حُضنٍ يجِب أن يرتَمِي، وإلى أي روحٍ يَجِب أن يأوِي؛ يُخَيَّل إليه أن هذه الأرض أضيَق من أن تتَّسع له وأوسَع من أن تَلفِضه. كُل مايعرِفه هو أنَّه لايَعرِف شيئاً.
يريد أن يعبُر الطَّريق مُمسكاً بيد أحدهم ولكِنَّه من فرط ماقادته الأيادي الَّتي منحها كُل ثقته في مرات سابقة إلى أماكن أرادوا إيصاله إليها بينما لم يكن يريدها، أماكن لم تكُن تشبهه ولا يشبهها، لاترغَب به ولا يرغَب بها، أيادٍ قادته إلى حيث أرادَت وليس إلى حيث أراد؛ أخيراً يُقرِّر أن يسلم نفسه إلى هذه الحيرة، يعود إلى نقطة البداية…