سكن المعنى في أفق المنفى.. قراءة وجودية في تجربة إخلاص فرنسيس بين الكتابة والهوية

بقلم: د.آمال بوحرب_ تونس
في عصر يتسم بالهجرة الواسعة والتحولات الثقافية السريعة تبرز أصوات أدبية قادرة على تحويل الاغتراب إلى طاقة إبداعية خصبة تجمع بين الذاكرة الجماعية والتجربة الفردية.

إخلاص فرنسيس الأديبة والشاعرة اللبنانية المقيمة في سان دييغو بكاليفورنيا تمثل واحدة من هذه الأصوات البارزة في الأدب العربي المعاصر. نشأت في قرية جنوبية لبنانية حيث تشربت رائحة الأرض والنعناع والحنين المبكر ثم حملتها الهجرة إلى فضاء أمريكي واسع يمزج بين صخب المدينة الحديثة وهدوء الغابات والمحيطات. لم تكن الهجرة بالنسبة إليها مجرد انتقال جغرافي بل تحول وجودي عميق دفعها لاستكشاف أعماق الذات الإنسانية الهشة مفككة الثنائيات التقليدية بين الوطن والمنفى الرغبة والفقدان الجسد والروح.
يأتي مشروع إخلاص فرنسيس الأدبي والثقافي في قلب تحولات عميقة يعيشها العالم العربي والشتات معًا حيث تتحول الهجرة من حدث اجتماعي إلى سؤال وجودي يمس الهوية والذاكرة والجسد تمثل الكاتبة اللبنانية المنحدرة من جنوب لبنان والمقيمة في سان دييغو نموذجًا لذات مهاجرة تحوّل جرح الاغتراب إلى طاقة معرفية وجمالية وتحوّل المنفى من فقدان إلى فضاء لإعادة كتابة الذات والعالم عبر الكتابة والحوار من خلال هذه القراءة اردت الكشف عن البنية العميقة لتجربتها من خلال ثلاث ركائز الاغتراب كأفق وجودي الجسد الأنثوي والرغبة ثم المشروع الثقافي غرفة 19 بوصفه فعلًا جماعيًا للمقاومة والمعنى
أولًا الاغتراب كأفق وجودي في الكتابة
تتجذر تجربة إخلاص فرنسيس في انتقالها من قرية جنوبية ذات ملامح ريفية وذاكرة حسية كثيفة إلى فضاء أمريكي واسع شديد الاختلاف ثقافيًا وحضاريًا حيث يتحول الانتقال الجغرافي إلى تحول في نمط الوجود ذاته تلتقط الكاتبة هذا التحول من خلال ثنائية الوطن المنفى وتعيد صياغتها كحركة توتر دائم تفتح النص على سؤال كيف يمكن للإنسان أن يسكن عالمًا يشعر فيه بالانتماء على نحو متدرج هنا تقترب تجربتها من الهاجس الوجودي الذي يرى في الاغتراب لحظة وعي فتغدو الكتابة محاولة لإعادة ترميم السكن في العالم عبر اللغة والصورة والذاكرة
في مجموعتها القصصية ظل النعناع تتجسد هذه الرؤية بوضوح إذ تتحول رائحة النعناع القادمة من المطبخ الجنوبي إلى ظل يرافق الذات في المنافي البعيدة فيتحول الحسي إلى حامل أنطولوجي للانتماء هذا الاستثمار للتفاصيل الصغيرة يمنح النص بعدًا فلسفيًا فالذاكرة تمارس إعادة تشكيل من داخل الحاضر المنفي ما يجعل النص فضاء تعبر فيه الذات بين زمنين وهويتين بذلك يصبح الفن عند فرنسيس وسيلة لمصالحة الذات مع جذورها وجسرًا تستعيد به حقها في الحنين وحقها في الحرية معًا
ثانيًا البنية الجمالية من الحسي إلى الوجودي
تعتمد إخلاص فرنسيس أسلوبًا يقوم على مزج الحسي بالوجودي والنفسي بالفلسفي بحيث يتحول المشهد اليومي البسيط إلى مرآة لأسئلة عميقة حول الفقد والوحدة والهوية في نصوص مثل عشق ضائع وعلى أهبة الغروب تظهر لغة مشحونة بالعاطفة والحرارة وتعمل على نحت صور تفتح أفق التأويل الفلسفي التركيب اللغوي هنا يعمل في مستويين سطح حسي يلتقط الحركة والرائحة وتفاصيل الجسد وعمق دلالي يلامس قلق الكينونة في مواجهة العدم والوقت والانفصال
تتفكك في هذا الأسلوب الثنائيات التقليدية التي رسخها الأدب العربي طويلًا الخير الشر العقل الجنون الامتلاء الانكسار وتُقدَّم كحالات متجاورة داخل الذات نفسها هذا التفكيك يمنح النص بعدًا إنسانيًا لأنه يعبّر عن هشاشة الكائن الذي يتجاذبه التناقض ويحوّل الأدب إلى مساحة اعتراف بالقلق بدل التمثّل بصورة مثالية إن الرهان الجمالي يكمن في جعل الهشاشة موضوعًا للكتابة وفي جعل القارئ يشعر أن قلقه جزء من جرح مشترك يفتح أفق الشفاء
ثالثًا الذات الأنثوية والرغبة بوصفهما فعل مقاومة
تقدّم إخلاص فرنسيس الذات الأنثوية في نصوصها من موقع الفعل ومن موقع الاختيار المرأة في قصصها وشذراتها ذات تمتلك جسدها وتعيد تعريف رغبتها ومصيرها عبر الكتابة والوعي هذا الحضور يضع تجربتها ضمن تيار الكتابة النسوية العربية المعاصرة الساعية إلى كسر أنماط التشييء والتبرير التي جعلت المرأة رمزًا للامتثال أو التضحية
تظهر الرغبة الأنثوية في أعمالها كحاجة وجودية إلى الاعتراف والكرامة قبل كونها ميلًا جسديًا فالرغبة هنا تقف في مواجهة الاغتراب وتتحول إلى وسيلة لاستعادة الذات من هوامش التهميش الاجتماعي والثقافي في هذا السياق تكتب فرنسيس الجسد بوصفه لغة مقاومة وتكشف تناقضاته بين الجموح والانكسار وبين الاشتعال والهدوء لتفكك الصور النمطية التي تلحق الأنوثة بالضعف أو الخضوع هذه الرؤية تتجلى أيضًا في قراءاتها النقدية كما في تفاعلها مع رواية الجميلات النائمات حيث تعيد تأويل الجسد كموقع كامِن لرفض صامت وإمكانية تحرر مؤجلة
رابعًا غرفة 19 والمشروع الثقافي في المنفى
يشكل مشروع غرفة 19 ركنًا أساسيًا في فهم تجربة إخلاص فرنسيس فهو امتداد عضوي لاختياراتها الوجودية والجمالية ومحاولة لتجاوز عزلة الكاتب في المنفى عبر تأسيس فضاء حواري مفتوح تأسست المنصة بين عامي 2019 و2020 في سان دييغو بمنظور يربط المثقفين العرب في المهجر بنظرائهم في الداخل وتحولت مع الوقت إلى منصة رقمية ذات طابع مؤسسي وتعقد ملتقيات وندوات دورية عابرة للحدو
يتجاوز دور غرفة 19 النشر التقليدي إلى جعل النقاش النقدي والحوارات الأدبية والملتقيات الدولية مختبرًا حيًا لصناعة الوعي ومساءلة القيم السائدة في زمن تهيمن عليه السرعة والاستهلاك الثقافي عبر هذه الفعاليات تستعيد إخلاص فرنسيس دور المثقف بوصفه منشئًا للجسور بين الشتات والأصل ومقاومًا للانغلاق والعزلة الثقافية من خلال تفعيل طاقة الحوار والتفكير الجماعي المنصة بهذا المعنى تعيد الاعتبار للفعل الثقافي كمساحة مشتركة بين الفلسفة والأدب والممارسة الاجتماعية وتكشف أن المنفى يمكن أن يكون مركزإشعاع
خامسا المنفى طاقة إبداعية وإعادة صياغة الهوية
يمنح موقع إخلاص فرنسيس الهجين بين لبنان وأمريكا تجربتها وعيًا مزدوجًا يتيح النظر إلى الذات العربية من خارجها وإلى الثقافة الغربية من موقع الاختلاف هذا الوعي ينتج نصوصًا تتقاطع فيها رائحة النعناع الجنوبي مع غابات كاليفورنيا والمحيط الهادئ فتتشكل مخيلة هجينة تفتح الأدب العربي على فضاءات جديدة دون قطع مع الجذور
المنفى في كتابتها شرط لإعادة التفكير في الهوية بوصفها عملية مستمرة فالهويّة تُستعاد عبر مساءلتها وتُرمَّم عبر المرور بتجربة التمزق والتعدد بذلك يتحول الاغتراب إلى محرّك للتأمل والكتابة إلى وسيلة لإعادة ترتيب العلاقة بين الفرد والجماعة وبين الماضي والمستقبل
الغروب سؤال الوجود في أفق القراءة الفلسفية
“لنص على أهبة الغروب ”
تتجلى خصوصية إخلاص فرنسيس الشعرية في نص “على أهبة الغروب “الذي يفتح إمكان قراءة فلسفية ترى في الغروب لحظة انكشاف للكينونة عند حدودها القصوى فيتحول الزمن من معطى حسي إلى تجربة وجودية متأملة حين تقول يحملق الوقت يتجسد الزمن ككيان حي يحدق في الإنسان ذاته وهي صورة تنسجم مع تصور مارتن هايدغر للكينونة والزمان حيث يعيش الإنسان الزمن كأفق وجودي داخلي
أما صهيل الشرق في شرياني فيمثل نداء الكينونة الأولى حيث يغدو الشرق رمزا للانبلاج والخلق البدئي بينما تتجسد الحربة المغروزة في صلصال الحرية كاستعارة وجودية تلتقي مع تصور جان بول سارتر للحرية بوصفها مادة الوجود الإنساني ووعيه بذاته فالإنسان يتشكل عبر اختياراته ومسؤوليته
وفي قولها أعلق على أغصان الزيتون أحلامي تتبدى علاقة الذات بالعالم وفق منظور موريس ميرلوبونتي حيث يتحقق إدراك المعنى عبر الجسد المتجذر في العالم الزيتون رمز للسلام الداخلي والهوية الأرضية والحلم طاقة تسكن الواقع وتطلب توازنا وانسجاما
مصدر مرجعي تبلغ التجربة ذروتها حين تقول وعلى شفتي تتبدد الرغبات ويهدأ صراخ الريح فتظهر لحظة سكينة الوعي بعد العاصفة وهي حالة تصالح بين الذات والعالم تذكر بما يسميه هيغل سكينة الروح حيث يتحقق الوعي بذاته في أفق كلي ربما لتؤكد هذه توحد الشعري والفلسفي في تجربة إخلاص فرنسيس حيث يتحول الشعر إلى فعل كشف وتجل للذات والعالم وتتحول الحرية إلى ممارسة معرفية ملتحمة بالجمال
خاتمة
قد تكشف القراءة النقدية لتجربة إخلاص فرنسيس عن مشروع متكامل تتضافر فيه الكتابة الإبداعية والوعي الأنثوي والفعل الثقافي الجماعي في المنفى لتشكيل رؤية فلسفية وإنسانية للاغتراب والهوية
والأكيد أنها تنجح في تحويل المنفى إلى أفق للتجدد وفي جعل الجسد الأنثوي والرغبة مساحتين للمعرفة والتحرر و أفقًا للتفكير ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو الى أي حد تنجح الكتابة على مداواة الجرح الجماعي أو النفس الكاتبة والمفكرة المغتربة ؟



