مقالات

اخرقتها لتغرق أهلها

بقلم: رجاء الطويل

بقلم: رجاء الطويل

أحيانًا تبدو بعض الأشياء في حياتنا وكأن يدًا خفية تُحدث فيها ثقوباً صغيرة…

ثقوباً لا نفهم معناها، ولا نملك لها تبرير، فتفزع قلوبنا كما فزع موسى عليه السلام حين رأى الخضر يخرق سفينة قومٍ مساكين:

{أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا}

هو تساؤل الإنسان في كل الأزمنة، هو استنكار من مشهد لا يفهمه العقل، وتعجب مما لاتراه العين إلا شر، هو تساؤل فزع من ظاهر الفعل.لماذا يحدث هذا لي؟

ولماذا الآن؟

وكيف يكون الخير مختبئًا في فعلٍ لا يرى العقل فيه إلا شرًّا؟

إننا — بطبيعتنا — نعتقد ان حياتنا هي “الظاهر الذي نراه” “و ليس لدينا أدنى فكرة أن هناك قدر يصنع لنا”.نظن أن الأشياء تستقر كما نريد ، وأن الحياة ستسير وفق خرائطنا التي رسمناها ، وأن السفن التي بنيناها ستُكمل الرحلة معنا.

لكن الله — بلطفٍ نحسبه عنف،وعنف هو أرق العطف — قد يخرق ما نعتمد عليه كي نعتمد على أنفسنا،

ويكسر ما اتكأنا عليه حتى ننهض وحدنا.

ويهزّ ثباتنا لنكتشف أن الثبات لم يكن في الأشياء… بل في قلوبنا وصدق إيماننا.

كل خرقٍ في سفينتك درسٌ يرتدي ثوب الصدمة.درسٌ لا يعلّمه البحر الهادئ، ولا تشرحه الأشرعة المنفوخة، بل يكتبه الله على صفحة الماء لحظة الانكسار الأولى.

الله لا يخرق سفينة عبدٍ ليغرقه،بل ليقول له:

أنت لم تُخلق لتنجو بما تبنيه، بل بما تصبح عليه بعد أن ينكسر ما بنيته.

فالنجاح الحقيقي هو ماتبقى بعد الإنهيار ليس الذي صنع قبله.

كم من بابٍ أغلقه الله فبكينا عند عتبته،

ثم شكرناه حين رأينا أبوابًا أخرى تضيء في آخر الطريق.

وكم من علاقةٍ أبقيناها حيّة بالقوة،

فانتزعها الله منا كي لا نُنتزع من أنفسنا.

وكم من حلمٍ ظننّا فى تحقيقة سعادتنا.

ثم اكتشفنا لاحقًا أننا لو نلناه…هلكنا.

أحيانًا، يقتلع اللّٰه جذورك من أرضٍ اعتدتها، ليزرعك في تربة أنقى. فتظن أنك فُقدت؛ بينما الحقيقة أنك بدأت تنبت من جديد.

-شمس الدين التبريزي

ليس من الحكمة أن نرى كل خرق نهاية،

ولا كل انكسار تهديدًا.

أحيانًا يكون الكسر مفتاح النجاة،

والتغيير — مهما كان قاسيًا — مجرد تعديلٍ في المسار كي لا يدفعنا البحر إلى عمقٍ لا نحتمله.

الغرق الحقيقي ليس في الحدث…

الغرق الحقيقي في الاعتراض عليه، في مقاومة ما كتبه الله،

في التشبث بسفينة غارقة بدل أن نتعلم العوم

 

اسأل نفسك حين تُخرق سفينتك:

ما الذي يريد الله أن يعلمنيه الآن؟

هل يريدني أن أصلح الخشب؟

أم أن أكتشف قدرتي علي العوم؟

هل يريدني أن أعود أدراجي؟

أم أن أمضي إلى شاطئٍ لم أكن لأصل إليه دون هذا التحول القاسي؟

إن اللطف الإلهي لا يشبه لطف البشر.

لطف البشر يُرضي،

أما لطف الله… فيبني.

نحن نبحث عن الاستقرار،

والله يبحث عن القوة في أرواحنا.

نحن نريد سفنًا تصل،والله يريد قلوبًا تُدرك الحكمة قبل الوصول.

 

فإذا خُرقت سفينتك…

فانظر جيدًا:

لعل الله لم يرد لك أن تصل بها، بل أرادك أن تصل بنفسك

 

القرن الواحد والعشرون human zoo

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
💬