مقالات

البعد الخفي للتعليم: أثر الشخصية في بناء تعلم فعّال.

بقلم : د. عبير علي بدوي 

بقلم : د. عبير علي بدوي 

تلعب نظرية الشخصية دورًا محوريًا في فهم الفروق الفردية بين المتعلمين، لكنها لم تعد اليوم مجرد إطار نظري يصف أنماط السلوك أو السمات الإنسانية؛ بل أصبحت أداة تربوية مؤثرة تسهم في الارتقاء بعملية التعليم عندما تُوظَّف بوعي نقدي. فالتعليم الحديث لم يعد مقتصرًا على نقل المعرفة، وإنما بات يهدف إلى بناء إنسان يفكر ويتفاعل ويحلل ويتعلم وفقًا لقدراته وميوله وأساليبه الخاصة. وهنا يظهر دور نظرية الشخصية كجسر حقيقي بين ما يملكه المتعلم من خصائص فطرية ومكتسبة، وبين ما يحتاجه من خبرات تعليمية تعزز تطوره الأكاديمي والوجداني.

إن فهم شخصية المتعلم يساعد المعلم على قراءة ما وراء السلوك الظاهر داخل الصف، ويمكّنه من التمييز بين ما هو ناتج عن نمط شخصية معيّن وما هو استجابة لظروف أو مواقف تعليمية. وهذا الفهم العميق لا يمنح المعلم القدرة على تقديم تعليم أكثر عدلاً فحسب، بل يسمح أيضًا بتصميم خبرات تعليمية أكثر مرونة وواقعية. فعلى سبيل المثال، قد يظهر طالب انطوائي في بيئة تقليدية على أنه غير مشارك، لكن نظرية الشخصية تكشف أن هذا الطالب قد يكون متفوقًا في التحليل العميق والتفكير المنطقي، مما يستدعي أنماطًا مختلفة من الأساليب التدريسية تتناسب مع نمطه المعرفي.

ويمثل التفكير الناقد هنا بعداً مهمًا في فهم العلاقة بين الشخصية والتعليم؛ إذ يدفع المعلم إلى الابتعاد عن الأحكام السطحية التي تعتمد على الملاحظة المباشرة، ويحثه على تحليل سلوك الطالب في ضوء عوامل أعمق وأكثر تعقيدًا. فالمعلم الذي يستخدم التفكير الناقد لا يقع في فخ التعميمات، بل ينظر إلى كل متعلم بوصفه حالة فريدة تستحق أن تُفهم وتتطور عبر مسارات تعليمية مختلفة.

ومع ازدياد تعقيد الحياة المعاصرة، بات من الضروري أن يتبنّى التعليم رؤية أكثر شمولية للمتعلمين، رؤية تجمع بين السمات الشخصية والدافعية والقدرات المعرفية والسياق الاجتماعي. وهذا ما يجعل توظيف نظرية الشخصية داخل الصف خطوة جوهرية لصنع تعلم يتجاوز حدود المعرفة إلى بناء وعي وفهم ذاتي. كما يسهم هذا التوظيف في تعزيز مهارات القرن الحادي والعشرين، وعلى رأسها التفكير التأملي والمرونة الإدراكية والقدرة على حل المشكلات.

إن إدماج نظرية الشخصية في التعليم لا يعني تصنيف الطلاب أو وضعهم في قوالب ثابتة، بل يعني فهم أن لكل شخصية طريقتها الخاصة في التفاعل مع المعرفة، وأن نجاح التعليم يبدأ من احترام هذا الاختلاف، ومنح كل متعلم فرصته ليُظهر أفضل ما لديه. ومن خلال نظرة نقدية واعية، يصبح بإمكان المؤسسات التعليمية والمعلمين تصميم تجارب مختلفة تؤدي إلى تعلم أعمق وأكثر فاعلية وارتباطًا بحياة المتعلمين.

وهكذا يتبيّن أن نظرية الشخصية ليست مجرد إضافة معرفية إلى التعليم، بل هي مفتاح لفهم الإنسان داخل بيئته التعليمية، وممرٌّ لتعليم أكثر إنسانية وعمقًا وفاعلية. إنها رؤية تجعل من الصف مساحة حقيقية لنمو مختلف الشخصيات واكتشاف إمكاناتها، بعيدًا عن القوالب التقليدية التي لا تعترف بالفروق الفردية.

 

من اليأس إلى القوة : كيف أسّس سيلجمان ثورة علم النفس الإيجابي؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى