فصل الشتاء

بقلم: حسن بن محمد منصور مخزم الدغريري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله ، وصحبه ؛ ثمَّ أمَّا بعد :
أخي القارئ الكريم : تغير الأجواء من صيفٍ حارٍّ إلى شتاءٍ باردٍ أو معتدلٍ في بعض البلدان تذكرنا بفضل الله ورحمته على عباده ، وأنَّهم بحاجةٍ ماسة إلى هذه النعمة كغيرها من النعم ؛ قال أهل العلم : ” لو كان الزمان كله فصلاً واحداً لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه ؛ فلو كان صيفاً كله لفاتت منافع مصالح الشتاء ، ولو كان شتاءً لفاتت مصالح الصيف ، وكذلك لو كان ربيعاً كله ، أو خريفاً كله”.
أخي القارئ : إنَّ بمجيء الشتاء البارد في كثيرٍ من البلدان ، والمعتدل في بعضها أمرٌ يفرح بمقدمه العابدون ، ويسعد بمجيئه الصالحون ؛ لأنه موسم خصبٌ لعبادتين عظيمتين ، ينال بهما المؤمنون أجوراً عظيمةٍ ؛ من ربٍّ كريمٍ ، واسع الفضل والعطاء ، وتلكما العبادتان هما : عبادة الصيام ، وعبادة القيام ؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال : “مرحبًا بالشتاء ، تنزل فيه البركة ، ويطول فيه اللّيل للقيام ، ويقصر فيه النّهار للصّيام” وقال الحسن البصري رحمه الله : ” نعم زمان المؤمن الشتاء : ليله طويلٌ فيقومه ، ونهاره قصير فيصومه ” وعن عبيد بن عمير رحمه الله أنّه كان إذا جاء الشّتاء قال : ” يا أهل القرآن : طال ليلكم لقراءتكم ؛ فاقرؤوا ، وقصُر النّهار لصيامكم ؛ فصوموا ” .
معاشر القراء : هذا هو الشتاء قد أقبل عليكم ؛ بأجوائه الباردة ، والمعتدلة ؛ فاستثمروه غاية الاستثمار بالأعمال الصالحة ؛ ولا سيما بالصيام والقيام ؛ لأنَّ نهاره قصيرٌ ، والأجواء فيه باردةً ؛ فتزول به مشقة طول النهار ؛ وشدة الحرارة التي يحصل بها الظمأ للصائمين .
ولا شكَّ ولا ريب أن يكون الشتاء ربيع المؤمن ؛ قال ابن رجب رحمه الله : ” وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن ؛ لأنَّه يرتع فيه في بساتين الطاعات ، ويسرح في ميادين العبادات ، ويتنزّه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه كما ترتع البهائم في مرعى الربيع ؛ فتسمن وتصلح أجسادها ، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من الطاعات ؛ فإنَّ المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقةٍ ، ولا كلفةٍ تحصل له من جوعٍ ، ولا عطشٍ ، فإن نهاره قصيرٌ باردٌ فلا يحس فيه بمشقة الصيام ” .
أخي القارئ الكريم : إنَّ المسلم في زمن الشتاء يحتاج إلى معرفة بعض الأحكام الفقهية التي تتعلق بعبادة الله فيه :
منها الطهارة بالتيمم بدلاً عن الطهارة بالماء في الحدثين الأكبر والأصغر في حالة عدم وجود الماء ؛ أو العجز عن استعماله لمرضٍ أو بردٍ شديدٍ أو مشقةٍ وضررٍ متوقع ، لعدم وجود ما يسخن به الماء للوضوء والاغتسال ؛ وخاصةً في فصل الشتاء القارس ، والثلوج المتراكمة ؛ فيشق معهما استعمال الطهارة بالماء بسبب برودة الماء في فصل الشتاء ؛ وقد قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة : ٦ ) وقال تعالى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ) ( الحج : ٧٨ ) وفي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنَّه قال : ” احتَلمتُ في ليلةٍ باردةٍ في غزوةِ ذاتِ السُّلاسلِ ، فأشفَقتُ إنِ اغتَسَلتُ أن أَهْلِكَ ؛ فتيمَّمتُ ، ثمَّ صلَّيتُ بأصحابي الصُّبحَ ؛ فذَكَروا ذلِكَ للنَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ، فقالَ : يا عَمرو صلَّيتَ بأصحابِكَ وأنتَ جنُبٌ ؟ فأخبرتُهُ بالَّذي مَنعَني منَ الاغتِسالِ ، وقُلتُ إنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يقولُ : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) فضحِكَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ، ولم يَقُلْ شيئًا ) رواه أبو داود في سننه ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم ٣٣٤
أخي الفاضل : إن لم يحصل ضررٌ ، ولا مشقة باستعمال الطهارة بالماء في حال برودته في وقت الشتاء أو في حال حرارته في وقت الصيف ؛ ففي هاتين الحالتين ؛ يجب استعمال الماء للوضوء والاغتسال به ؛ وكم في ذلك من أجرٍ وثوابٍ ؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا ، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟ قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ ؛ قالَ : إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ ) رواه مسلمٌ في صحيحه ؛ وقال صلى الله عليه وسلم : ( أتاني اللَّيلةَ ربِّي في أحسَنِ صورةٍ ؛ فقال : يا مُحمَّدُ ! أتَدري فيمَ يختَصمُ الملأُ الأعلَى ؟ قلتُ : نعَم ؛ في الكفَّاراتِ ، والدَّرجاتِ ، ونَقلِ الأقدامِ للجَماعاتِ ، وإسباغِ الوُضوءِ في السَّبراتِ ، وانتِظارِ الصَّلاةِ بعد الصَّلاةِ ، ومن حافَظ عليهِنَّ عاشَ بخيرٍ ، وماتَ بِخَيرٍ ، وكان مِن ذُنوبِه كيومِ ولدَتْهُ أُمُّهُ ) رواه الترمذي في سننه ؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم ١٩٤ .
ومن أحكام الشتاء أخي القارئ الفاضل : جواز المسح على الخفين والجوربين ؛ ونحوها ؛ لمشقة غسل القدمين بالماء ، إذا أدخلت القدمان في الخفين وهما طاهرتان ؛ وكان المسح عليهما في الحدث الأصغر لا الأكبر ، وكان المسح على الخفين في الزمن المحدد له شرعًا ؛ وهو يومٌ وليلةٌ للمقيم ، وثلاثة أيامٍ بلياليهنَّ للمسافر ؛ وفي الحديث : ( بالَ جَرِيرٌ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ، ومَسَحَ علَى خُفَّيْهِ ، فقِيلَ : تَفْعَلُ هذا ؟ فقالَ : نَعَمْ ، رَأَيْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بالَ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ، ومَسَحَ علَى خُفَّيْهِ ) رواه مسلم في صحيحه ؛ وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : ( كُنتُ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سفرٍ ؛ فأهوَيتُ لأنزِعَ خُفَّيهِ ، فقال دَعهُما ؛ فإنِّي أدْخَلتُهُما طاهِرَتينِ . فمسَح عليهِما . فقلتُ : يا رسولَ اللهِ نَسيتَ ؟ فقال : بل أنتَ نَسيتَ ، بهذا أمَرَني ربِّي ) رواه البخاري ومسلم في صحيحهما ؛ وهذا المسح من فضل الله على عباده في دفع المشقة عنهم ؛ لأنَّ الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحبُّ أن تؤتى عزائمه .
إخواني القراء : إنَّ فصل الشتاء يطول فيه الليل ، ويقصر فيه النهار ، وفيه من الأحوال ما يجعله آيةً من آيات الله البديعة ، ودلائل قدرته الرفيعة .
فتأملوا رعاكم الله ما في فصل الشتاء من شدة البرد ، وقسوة الزمهرير الذي يذكرنا ببرد جهنم الذي يصير على أهلها عذابًا ؛ كما تصير عليهم الحرارة كذلك ، قال تعالى : ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) ( النبأ : ٢٤ – ٢٥ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ” الغساق هو الزمهرير يحرقهم ببرده ، كما تحرقهم النار بحرها ” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا ، فَقالَتْ : يا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا ، فأذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ ، نَفَسٍ في الشِّتَاءِ ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ ، فَهْوَ أَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ ، وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ ) رواه البخاري ومسلم في صحيحهما .
ألا فلنتذكر يا اخواننا القراء بهذا البرد القارس البردَ الشديد العظيم لنار جهنم أعاذنا الله واياكم منها ؛ والحرص على الأعمال الصالحة ؛ التي تبعدنا عن ذلك العذاب المؤلم ، ولنفرح بالأجواء المعتدلة في بعض البلدان ؛ لنؤدي عبادة ربنا على الوجه المطلوب ، ولنشكره على نعمه الدائمة ؛ ومنها الأجواء المعتدلة الطيبة ؛ التي تعين على طاعة مولانا عزَّ وجل ، وتضفي علينا الراحة والمتعة والسرور ؛ نسأل الله أن يوزعنا شكر النعم ، وذكرها من ربنا ذي الجلال والإكرام ؛ وأن يجعل تغير أحوالنا الجوية برداً وسلاماً علينا وعلى عباده المؤمنين في كل مكان ؛ وأن يعيذنا واياكم من النار ، وما قرب إليها من قول أو عمل ؛ وأن يدخلنا وإياكم الجنة ؛ وبذل أسباب دخولها ؛ من قولٍ أو عمل ؛
اللهم آمين .



