مقالات

الفترات الرمادية: كيف تصير ذاتك الأوسع؟

بقلم الكاتبة: أهداب المنديلى

بقلم الكاتبة: أهداب المنديلى

ليست كل أزمة تُعلن عن نفسها.أحيانًا، يأتي الاختناق على هيئة هدوء مفرط. لا توجد كارثة، ولا انهيار. كل شيء يبدو “بخير” على السطح: وظيفة ثابتة، علاقات مستقرة، روتين مألوف… لكن في الداخل، شيء ما يتثاءب طويلاً.

لا يمكنك أن تقول إنك تعاني، لكنك بالتأكيد لا تنمو.

في هذه اللحظات الرمادية، تبدأ الأسئلة بالتسرب من ثقوب اليوم العادي:

هل هذا كل ما في الأمر؟

هل أنا فعلاً أعيش، أم فقط أكرّر نسخة مريحة من نفسي؟

متى آخر مرة وقفت على حافة شيء جديد، حتى لو كان مربكًا؟

هذه ليست رفاهية فكرية، بل إشارات دقيقة على أن نسختك الحالية من نفسك لم تعد تكفيك. لكن المشكلة ليست فقط في الإدراك، بل فيما يليه:

ماذا تفعل حين تكتشف أن ما تعوّدت عليه لم يعد يناسبك، لكنك لا تعرف بعد ما يناسبك فعلاً؟

هنا تبدأ الفترة الرمادية؛ المرحلة التي لا تعود فيها حيث كنت، ولا تصل بعد إلى حيث تريد. لا وضوح، ولا اسم جاهز، ولا خريطة مؤكدة… لكن هناك شعور داخلي يُلحّ: حان وقت التغيير، حتى لو لم تتضح معالمه بعد.

الراحة كقيد خفي

الراحة، في ظاهرها، مطمئنة: وظيفة مستقرة، لقب مهني واضح، جدول معروف.

لكن أحيانًا، هذه الراحة تكون مجرد اسم مهذّب للخوف:

الخوف من فقدان ما نعرفه، حتى لو لم نعد نريده.

الخوف من نظرة الناس حين نغير اتجاهنا.

الخوف من أن نبدأ من جديد، ونبدو “مبتدئين” بعد سنوات من التخصص.

وهكذا، تحت شعار “الاستقرار”، نواصل العيش داخل نسخة قديمة منا، لا لشيء إلا لأنها مفهومة أكثر.

لكن الداخل لا يكذب.

شيء فيك يعلم أنك تغيّرت، حتى لو لم تعلن ذلك.

والاستمرار حينها لا يكون راحة حقيقية، بل خيانة هادئة للذات.

القلق النبيل: الألم الخفيف كأداة نمو

هناك نوع من القلق لا يحتاج إلى علاج، بل يحتاج إلى مساحة.

إنه ذلك القلق الذي لا يأتي من أزمة، بل من التوسّع.

مثل ألم العضلة بعد تمرين جديد: ليس إصابة، بل علامة على أن جسدك يتكيف مع مستوى جديد.

الشيء نفسه يحدث على مستوى الهوية:

عندما تتعلم شيئًا خارج مجالك وتشعر بأنك غريب.

عندما تجرّب لغة لا تتقنها وتشعر أنك أقل.

عندما تعيش مرحلة انتقالية ولا يمكنك شرح “ماذا تعمل” بجملة واحدة.

هذا القلق ليس مرضًا، بل هو الأثر الجانبي الطبيعي للتوسع.

وكل مرة تحتمله دون أن تهرب، تشكّل في داخلك طبقة جديدة:

ثقة أعمق، فهم أوسع، أو زاوية رؤية مختلفة للعالم… ولنفسك.

الفترة الرمادية: مختبر التحوّل

بينما يسعى معظم الناس للقفز من وضعهم الحالي إلى ما يتمنونه، هناك مساحة قلّ من يتحدث عنها: المساحة بين النسختين، حيث لا شيء واضح بعد.

تلك هي الفترة الرمادية.

تبدو فارغة، لكنها في الحقيقة مختبر داخلي.

لا تُقاس فيها الإنتاجية، بل تُعاد فيها صياغة العلاقة بينك وبين نفسك.

قد لا يكون لديك لقب واضح، ولا إجابة جاهزة لسؤال: “ماذا تعمل؟”

لكن ما يحدث داخلك في هذه المرحلة سيكون هو اللبنة الأولى لهويتك التالية — إن سمحت له بأن يكتمل دون استعجال.

كيف تعبر هذه الفترات؟

1. قلّل الحاجة للإجابات السريعة.

ليس كل شيء يحتاج أن يُسمّى من أول لحظة. دع الأسئلة تعيش قليلاً.

2. تعامل مع القلق كإشارة لا كإنذار.

ما تشعر به طبيعي تمامًا حين تكبر داخليًا.

3. وسّع تعريفك لذاتك.

لا تختصر نفسك بوظيفتك، ولا بمرحلة عابرة. أنت أوسع من ذلك.

4. مارس خطوات صغيرة خارج المألوف.

10 دقائق يوميًا في مجال لا تتقنه، تكفي لتذكيرك أنك لست ثابتًا.

وأخيرًا…

الفترات الرمادية ليست فراغًا، بل منطقة تختمر فيها ملامحك القادمة.

وإذا كنت الآن في هذه المرحلة، فلا تبحث فورًا عن مخرج.

ابحث أولاً عمّا يتشكل داخلك، بهدوء.

لا تحاول أن تعود كما كنت.

ولا تستعجل أن تصير كما تريد.

فقط ابقَ حاضرًا، حتى تتسع لنفسك القادمة

 

 

ما وراء الأرقام: كيف يصمم الذكاء العاطفي الثقافة الإنتاجية في المؤسسات

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى