مقالات

فرط الوعي

بقلم الكاتبة :عبير بن صديق 

بقلم الكاتبة :عبير بن صديق 

أنا الطفلة التي ركضت نحو الحياة، لا منها. فرط الحركة،فرط الاكتشاف،فرط الحب وفرط التساؤل.تعلّمت أن للعالم وجوهًا كثيرة، وأن لكل بيت روحًا، ولكل نافذة حكاية، ولكل لونٍ في الجدار لغة خاصة.

كنت أطرق أبواب الجارات لابدافع اللعب، بل بدافع التعلّم ،أزور بنات الحارة، وأزور البيوت معهم.أصغي للأمهات، أراقب ترتيب الأثاث، وأحفظ ملمس البلاط، وألوان الجدران، وروائح الطعام.

كانت عيني صغيرة، لكنها تغترف من الحياة بحجم مجرّة. حتى أنّ بعض الأمهات كنّ يشتكين لوالدتي:”ابنتك تسأل كثيرًا”،لم أدرك حينها أن تلك الشكاوى كانت بذور وعيٍ سأنضج عليه فيما بعد. أدعو بنات الحارة إلى بيتنا بعفوية بريئة، أطلقها من قلبي الصغير الممتلئ حبًا، تتفاجأ أمي بعد قليل بقدومهن ،فتضطر لصنع الكعك ، وهي تعاتبني بقلب الأم الحنون:

كم مرة قلت لك لا تعيديها!

فأعدهامرارًا وتكرارًا،لأني ببساطة كنت أحب وجود الأصدقاء،أحب اللمة، والضحك، والأصوات المبعثرة في أركان البيت،كنت أستأنس بالجَمع إستئناس القلب بالنور.

رحلتُ عن الحارة وأنا ستة أعوام،لكنني تركت هناك ظلاً لا يكبر، يعطيه العم سعيد خبزًا صغيرًا، وكراسا والوانا من العم كمال ومن العم عبد الله كيس حلوى لا ينقص.

تلك الطفلة عادت ، بعد واحدٍ وأربعين عامًا، مع أخوتي بلا خريطة وعرفت البيت، الذي كان يومًا كونًا صغيرًا. الشرفة والنوافذ الصغيرة، الباب .. اختلفت المساحات و تقلّصت،لكن الذاكرة لا تخون.أبعادالمكان تغيرت لكن التفاصيل أعادتني رسمت في خيالي بيتًا بيتًا، دكانًا دكانًا،بسكانها وأصواتهم,كنت أعيش الحارة في ذهني، طوال تلك السنوات،كأن ذاكرتي أحتفظت بها نقيًّة كما كانت.وعرفت أنني لا أتذكر عبثًا، اني أفهم المشاعر كما أفهم ترتيب الأرائك، أقرأ العلاقات كما أقرأ تنسيق الألوان، أدرك ما هو أبعد من الكلام، أبعد من التصرف،أبعد من الظاهر.

لكن الإدراك وحده لا يكفي.فالتفاصيل في المشاعر قد تكون شَركًا،تجعلنا ننتظر ما لن يأتي،نفترض ما لا يُقصد،نتوقّع عمقًا في مكان سطحي،ووهجًا في موضع خافت.

لهذا قررت بعد عمر من التوقع أن أعيش الإدراك باكتفاء،أن أحب بوعي،أن أتساءل بصمت،أن ألاحظ دون أن أنتظر،

وأن أكتفي من الداخل دون شهادة.

 

الفجوة القيمية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى