مقالات

جميلة بلطي: بين حروف الأدب وأفق الوعي 

د.آمال بوحرب  _ تونس

د.آمال بوحرب  _ تونس

في فضاء الأدب العربي المعاصر يصبح الفن مرآة تعكس تساؤلات الإنسان الأبدية عن الوجود والحرية والمعنى يرى سارتر أن الإنسان محكوم بالحرية في عالم بلا جوهر محدد بينما يدعو كامو إلى التمرد ضد العبث من خلال الإبداع في هذا السياق تبرز الأديبة التونسية جميلة بلطي عطوي كصوت أدبي يجمع بين الشعر والسرد ليستكشف أعماق الذات والمجتمع مسيرتها الأدبية رحلة معرفية وفلسفية تتجاوز الحدود الشخصية لتصل إلى الإنسانية جمعاء روايتها عند غروبها أشرقت تمثل نموذجا للإبداع الذي يحول الألم إلى جمال والعبث إلى معنى مقدمة تأملا عميقا في الوجود والحرية هذا المقال يستعرض سيرتها الذاتية وإنجازاتها الثقافية ويحلل البعد الوجودي والمعرفي في روايتها كنموذج لإبداعها مع ربط تجربتها بتجربة الأديب اللبناني جورجي الحكيم لإبراز أوجه التشابه والتفرد في سياق الأدب العربي

من التعليم إلى الإبداع المتعدد

ولدت جميلة بلطي عطوي في تونس حيث شكلت البيئة الثقافية الغنية أساسا لرحلتها الأدبية حصلت على الأستاذية في اللغة والآداب العربية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية 9 أبريل بتونس وأكملت دراستها بشهادة تكميلية في الفرنسية العصرية ولغة الصحافة هذه الخلفية مكنتها من الجمع بين عمق اللغة العربية وانفتاح اللغات الأخرى مما أثرى رؤيتها المعرفية اختارت التدريس كمهنة حيث عملت أستاذة للغة والآداب العربية والترجمة في المعاهد الثانوية لكن شغفها بالأدب دفعها إلى فضاءات الإبداع الشعري والسردي متزوجة وأم وجدة تجسد جميلة توازنا بين الحياة الشخصية والإبداعية هوايتها الأدب بأنواعه قراءة وإنتاجا وسيلة لاستكشاف المعرفة الإنسانية تعكس تأملاتها في الوجود والهوية والحرية

المسؤوليات 

الثقافية وبناء جسور المعرفة

ساهمت جميلة في بناء المشهد الثقافي التونسي والعربي بشكل فاعل شغلت منصب رئيسة نادي الأدباء الشبان سابقا ونائب رئيس جمعية ملتقى الحرف الأصيل الثقافية ومستشارة أدبية لمؤسسة الوجدان الثقافية كما أنها عضوة في اتحاد الكتاب التونسيين ونادي السرد توفيق بكار ونادي الشعر بالاتحاد ومشرفة على نادي في رحاب قرطاج للثقافة بالمكتبة الجهوية بتونس هذه الأدوار جعلتها جسرا معرفيا بين الأجيال حيث رعت المواهب الشابة وتعزز الحوار الثقافي شاركت في منتديات افتراضية وطنية وعربية مما عزز حضورها في الفضاء الرقمي مشاركاتها في تظاهرات ثقافية مثل أيام قرطاج الشعرية وشاعر تونس والاحتفاء بذكرى أبي القاسم الشابي ومهرجان القصة القصيرة بمساكن كعضو لجنة تحكيم في 2016 و2023 ومهرجان رائدات بلادي تظهر التزامها بتفعيل المعرفة الثقافية قدمت دواوين شعرية لشعراء تونسيين وعرب مثل طاهر مشي وفاطمة محمود سعدالله وحميدة بن ساسي وزهيرة بن عشاوية وجميلة قلعي وآمنة المحب من لبنان مما يعكس دورها في تعزيز التبادل المعرفي

تنوع الإبداع والتكريمات

تتجلى إبداعات جميلة في ستة دواوين شعرية أحلام ومراكب 2015 وهمس الحنين 2017 وأمواج من مداد 2018 والأفق والنوارس 2019 وبين نور وغسق 2021 ووشم على ذاكرة البياض 2022 مع ديوان السابح نبض والسروج حروف تحت الطبع هذه الأعمال تجمع بين الغنائية والتأمل المعرفي مستكشفة الحنين والهوية والحرية في السرد أصدرت مجموعات قصصية فيوض الدلاء 2018 وهمس المرايا 2020 ونجوى الحروف صهيل الحكايا 2022 وروايات عند غروبها أشرقت بجزأيها 2022 و2024 ومدارج الانعتاق 2025 التي تعكس قدرتها على نسج حكايات تجمع بين الواقع والخيال شاركت في أعمال جماعية مثل ديوان العرب 2017 ولآلئ الإبداع 2018 وكتاب سرديات بإشراف أنور غني الموسوي 2018 وغيرها حصلت على تكريمات مثل الأم المثالية من وطن الضاد والسنبلة الذهبية من حبر ستان والسعفة الذهبية من انكمدو العربي والفرعون الذهبي من نسمة الشعراء ووسام الإبداع الذهبي من الفكر الأدبي إضافة إلى تكريمات دولية من رومانيا والجزائر وكركوك وسفراء السلام والبطولة الوطنية للمطالعة رائدات بلادي 2022 أجرت حوارات في جريدة الشعب أون لاين ومحراب الشعر وانكمدو العربي ومملكة الشعر والوجدان وزيدان للفنون والزمان المصري

جورجي الحكيم: نبذة عن رائد المسرح الفلسفي

ولد جورجي الحكيم في بيروت عام 1911 وتوفي عام 1993 أديب ومسرحي لبناني يُعد رائدا للمسرح الفلسفي العربي حصل على دكتوراه في الفلسفة من السوربون بباريس عام 1934 ودرس تحت إشراف فلاسفة بارزين كتب أكثر من ستين مسرحية أبرزها أهل الكهف والملك أوديب مستلهما من التراث العربي والإغريقي ليستكشف قضايا القدر والحرية والاغتراب أسس فرقة مسرحية وشغل منصب رئيس اتحاد الكتاب اللبنانيين ساهم في تعزيز الحوار الثقافي عبر ترجماته ومشاركاته في مهرجانات دولية حاز على جوائز مثل جائزة اليونسكو للدراما عام 1965

عند غروبها أشرقت نموذج للإبداع

رواية عند غروبها أشرقت بجزأيها 2022 و2024 تمثل قمة إبداع جميلة بلطي عطوي حيث تجمع بين الشاعرية والسرد لتقدم تأملا وجوديا ومعرفيا عميقا الناقد محمد وجيه في دراسته بمجلة الفكر الأدبي يصفها بأنها رحلة إنسانية تحول الألم إلى معنى مستلهمة من التراث العربي والفلسفة الحديثة الرواية فضاء فلسفي يستكشف الصراع بين اليأس والأمل عبر لغة مكثفة وشخصيات رمزية تجسد التجربة الإنسانية هذا العمل يعكس قدرتها على تحويل الأدب إلى أداة معرفية تكشف عن أعماق الذات والمجتمع مقدمة نموذجا للإبداع الذي يتحدى القيود ويخلق المعنى

البعد الوجودي والمعرفي ” عند غروبها أشرقت”اختيارمشروع 

البعد الوجودي في الرواية يتجلى في ثنائية العنوان الغروب كنهاية والشروق كتجدد الناقدة زهيرة بن عشاوية في مقال بمجلة الصواب تشير إلى أن هذه الثنائية تعكس مفهوم كامو للعبث حيث يواجه الإنسان عالما بلا معنى مطلق لكنه مدعو لخلق معناه الشخصية الرئيسية الباحثة عن المعنى امرأة تونسية تواجه قيود المجتمع من الأعراف التقليدية إلى الخسارات الشخصية تجسد مفهوم هايدغر للوجود المُلقى حيث تجد نفسها في عالم لم تختاره لكنها تتحمل مسؤولية تشكيل مصيرها كما يدعو سارتر في الجزء الأول تعاني من الاغتراب الوجودي شعور بالانفصال عن الأسرة والمجتمع والذات يعكس القلق الكيركغاردي الناقد يعقوب أحمد يعقوب في حوار مع نسمة الشعراء يصف هذه المرحلة بأنها مواجهة الفراغ الوجودي لكن في الجزء الثاني تتحول الشخصية نحو الحرية عبر اختياراتها الكتابة تصبح فعلا وجوديا للمقاومة كما يرى كامو في الإنسان المتمرد حيث تتحدى العبث بخلق المعنى الرمزية تلعب دورا محوريا الغروب يرمز إلى اليأس والشروق إلى الأمل بينما تعكس الطبيعة مثل الأمواج العاتية والسماء الصافية الحالة النفسية للشخصيات الناقد توفيق بكار في مقال بزيدان للفنون يشير إلى أن المناظر الطبيعية شريك في الحوار الوجودي اللغة السردية تجمع بين الشاعرية والكثافة الفلسفية عبارات مثل ظلال الغروب تتسلل إلى الروح تعكس القلق بينما من رحم الغسق يولد النور تعبر عن إيمانها بخلق المعنى البعد المعرفي يظهر في استخدام الأدب كأداة لفهم الذات والمجتمع الرواية تستكشف الطابع النسوي كتحرر إنساني عام دون الوقوع في الشعارات الناقد محمد وجيه يؤكد أن الكتابة في الرواية فعل معرفي يعيد تشكيل الهوية في سياق عربي معاصر مما يجعلها جسرا بين التراث والحداثة

مقاربة أدبية مع “الحكيم “

تتشارك تجربة جميلة بلطي عطوي مع تجربة توفيق الحكيم في تقديم الأدب كفضاء للتأمل الفلسفي والمعرفي، إذ يستخدم كل منهما نصه الأدبي لاستكشاف قضايا الإنسان المعاصر، وإن اختلفت السياقات الثقافية والأدوات الفنية. فالحكيم في مسرحياته مثل “أهل الكهف” و”الملك أوديب” يركّز على الصراع بين القدر والحرية مستلهماً التراث العربي والإغريقي، مستخدماً الرمزية والحوار المسرحي لإثارة التساؤلات الفلسفية أما جميلة في روايتها “عند غروبها أشرقت”، فتقدّم من خلال السرد والشعرية تأملات معرفية تربط الذات بالمجتمع، مع التركيز على تحرر المرأة في السياق التونسي المعاصر

كلا الكاتبين يستعينان بالرمزية لتجسيد الأفكار الفلسفية؛ فالكهف عند الحكيم رمز للاغتراب والجمود، بينما الغروب والشروق عند جميلة رمز للصراع بين العبث والمعنى. كما يؤمنان بقوة الأدب في مواجهة التحديات الإنسانية، لكن تجربة جميلة تضيف لمسة معاصرة من خلال بعد نسوي وتركيز على الفضاء الرقمي، ما يجعل صوتها الأدبي فريداً في المشهد العربي الحديث.

إرث معرفي ووجودي

جميلة بلطي عطوي فيلسوفة مفكرة براعةتستخدم الأدب لاستكشاف الوجود والمعرفة في عام 2025 تظل مسيرتها مصدر إلهام تجمع بين التراث العربي والتساؤلات الحديثة عند غروبها أشرقت نموذج لإبداعها الذي يحول الأدب إلى فعل مقاومة ومعرفة تشترك مع جورجي الحكيم في تقديم الأدب كفضاء للتأمل الفلسفي لكنها تتفرد بطابعها النسوي والمعاصر تذكرنا بأن الفن جسر نحو فهم أعمق للإنسانية.

 

 

الساعة الأخيرة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى