أشدّ الليل… أن تمرض بعيدًا عن يد أمك

بقلم : د. سوسن توفيق حنفي
أقسى ما في المرض ليس الوجع وحده،بل أن تواجهه وحيدًا.
مـولاي..
أجفاني جفاهن الكرى،
وشابٌ مثله كان يجاهد النوم على سرير الطوارئ،
عيناه واسعتان،
كأنهما تبحثان عن شيءٍ يتشبث به وسط الغربة والمرض والخوف.
اقتربتُ منه فوجدتُ غير الألم في صدره،
إنه الخوف.
الخوف من تدهورٍ مفاجئ،
من خبرٍ لا يحتمله،
من أن يُغلق عليه باب غرفة العزل وحده فلا يُفتح .
خوفٌ من أن تغيب عنه فرصة رؤية أهله مرةً أخرى،
أو أن يُسافر من الدنيا قبل أن يعود إلى حضنٍ تركه ليُكمل دراسته بعيدًا ويبني مستقبله.
كان يردد بصوتٍ مكسور:
“أنا لوحدي ،ما أبغى أموت هنا. ما شفت أمي من شهور. يارب اكتب لي أشوفها ثاني قريب وأنا بخير”
واسترسل واستبسل في الدعاء بصوت مخنوق.
يا الله،
أحسست كلماته موجزة للمناجاة القديمة:
«مولاي لي عمل ولكن موجب لعقوبتي، فأحنن عليّ تكرمًا»
فهو يعرف جهده، يعرف تعبه، يعرف أنه جاء من بلادٍ بعيدة ليصنع لحياته معنى.
لكن المرض حين يطرق الباب بلا إذن ينسف كل شيء،
ويترك الإنسان صغيرًا، ضعيفًا، ومكسورًا.
كطفلٍ سار مستعجلًا مبهورًا بما حوله في سوقٍ مزدحم وفجأة أدرك أنه تاه وحده.
جلستُ قربه،
وكانت يداه ترتجفان،
كأن الرجفة ليست من الحمى،
بل من تلك الأسئلة المرعبة التي تجول في الخاطر ولا تُقال بصوتٍ مسموع:
هل سأخرج من هنا؟ هل سينتهي كل شيء الآن؟ هل سأموت قبل أن أرى أهلي؟
في تلك اللحظة، ازددت يقينًا بأن الطوارئ ليست مكانًا للمارسة الطبية فقط،
بل مكانٌ تلتقي فيه مختلف قصص البشر في أضعف وأقسى أوقاتها مع رحمة الله… مكانٌ تُختبر فيه قلوبنا كما تُختبر فيه مهاراتنا.
ونقف نحن ( أطباء الطوارئ ) في مواجهة هذا التدفق الإنساني اليومي،
نحمل في جعبتنا حكاياتٍ لا تُحصى،
كل واحدةٍ منها عيّنة من الحياة كما هي
بفرحها المفاجئ، وبحزنها الذي لا يستأذن،
وبنهاياتها التي تأتي أحيانًا أسرع مما نحتمل.
كان الشابُّ ينظر إلى السقف،
وكأنه يقرأ عليه دعاءً غير مكتوب،
دعاء يشبه مناجاة الشاعر:
«يا ذا العطا، يا ذا السخا. اسقِ العطاش تكرّمًا.»
وكأن قلبه هو العطشان،
وكأن الطمأنينة هي الماء.
قلت له:
“لن يضرك شيء، أنت بين أيدٍ أمينة، والوضع تحت السيطرة.”
لكنه لم يكن يسمع الكلمات،
كان يسمع خوفَه الداخلي،
ذلك الصوت الذي يعلو دائمًا فوق كل ضجيج:
أنا غريب. من سيبكي عليّ لو حدث شيء؟ من سيواسي أمي لو جاءها خبر مرضي؟
وهنا..
أيقنت أن المرض لا يسكن في الجسد وحده،
بل يسكن في الشعور بالعجز،
في الشعور بالوحدة،
في ذلك الحنين الذي يخنق أكثر مما يفعل المرض.
ومع كل هذا،
تعلّمت من قصته شيئًا واحدًا:
أن الإنسان حين يمرض في الغربة لا يحتاج دواءً فقط،
بل يحتاج يدًا تطمئنه،
عينًا تخبره أنه مرئيّ وبخير.
وصوتًا يقول له إن الطريق ما زال أمامه،
وأن الله برحمته التي تسبق الخوف
لن يترك قلبًا جفاه النوم من الهمّ،
ولا روحًا ارتعشت من فِكرة الفقد.
كلّنا عطاشى في لحظةٍ ما،
وكلّنا ننتظر سقيا الرحمة،
تمامًا كما انتظر ذلك الشاب أن يسمع صوتًا يطمئنه،
أو رسالةً من أهله،
أو فجراً يأتي بخبر النجاة.
وحين طلب منّي الشاب بصوتٍ خافتٍ متهدج أن أتصل بأمه،
شعرت أن قلبه يريد أن يسبق شفتيه،
أن يخرج من صدره ليلتحق بتلك المرأة التي تنتظره في بلدٍ بعيد.
لكن خوفي على الأم، وعلى وقع الخبر على قلبٍ أمضي العمر كله يحرس أبناءه،
دفعني إلى أن أتجه أولًا لوالده.
لرجلٍ قد يكون أقدر على حمل هذا القلق بلا أن ينهار.
اتصلت.
وما إن قال:
“نعم… من معي؟”
حتى سمعت هدير القلق يختبئ خلف كلماته،
ذلك الارتجاف الذي لا يصدر من خوفٍ عابر،
بل من رعبٍ يسكن الآباء حين يسمعون رقمًا غريبًا في ساعةٍ غير مناسبة.
عرّفتُ بنفسي
وما إن قلت كلمة ابنك حتى تغيّر صوته،
وانسحبت منه قوّة الرجال،
وحلّت محلّها هشاشةٌ صرف
هشاشةٌ لم أعرف مثلها إلا في أقسام الطوارئ حين ينهار أحبّ الناس.
سمعتُ تهدّج أنفاسه…
كان يتنفس بسرعةٍ كأن الهواء نفسه صار بعيدًا عنه،
وكأن المسافة بينه وبين ابنه ليست آلاف الكيلومترات،
بل صخرةٌ هائلة تسحق صدره.
قال لي بصوتٍ مرتجفٍ يخترقه الدعاء والرجاء والاستجداء:
“يا دكتورة بالله… ولدي بخير؟
تكفين، قولي لي… ولدي بخير؟
ما أقدر أعيش لو صار له شيء… والله ما أقدر.”
تلك اللحظة…
شعرت أن جسدي كلّه صار قلبًا واحدًا يخفق.
كم يذوب الإنسان حين يسمع صوت أبٍ تُسحق روحه خوفًا،
وكيف يخون الكلماتُ اتزانها حين يكون عليها أن تحمل حياةً أو موتًا.
حاولت أن أُمسك صوتي بثبات ورزانة اعتدتها في عملي.
أن أجعله أكثر رسوخًا من ارتجاف قلبي،
وقلت له بهدوءٍ مُتقن، هدوءٍ أعددته كما تُعدّ ضمادًا لجرحٍ ينزف:
“ابنك بخير، صدّقني… بخير.
كان قلقًا فقط، ويحتاج إلى تنويمٍ بسيط للمراقبة،
تحاليله مستقرة، وأعراضه في تحسن.
لم أتصل إلا بناءً على رغبته يا عمي
وليس لأنه في خطر.”
لكن الأب
كان يلهث كما لو أنه يركض في قلب عاصفة:
“تكفين…
تكفين قولي لي إنه بخير.
ما أقدر أجي الآن… الطيارة بعيدة…
بس قولي لي… ولدي بخير؟”
يا الله
كيف تختلط الرجولة بالانكسار عند بوابة الأبوة؟
كيف يتحول الرجل الذي يشبه جبلاً إلى طفلٍ خائف حين يكون الموضوع ابنه؟
طمأنته مرارًا،
وأعدت عليه الكلمات نفسها مرّة بعد مرّة،
حتى هدأ صوته،
وتراجعت شهقات أنفاسه،
كأن الطمأنينة نزلت عليه شيئًا فشيئًا،
وكأن صمته الأخير كان سجدةً طويلة لربٍّ لم يره،
لكنّه لطالما احتمى به.
وعندما أغلقت الخط،
شعرت أني لم أكن أكلّم أبًا،
بل كنتُ أمسك بيد قلبٍ يتفتت،
وأعيد لصاحبه نبض الحياة بكل كلمة .
وفي النهاية
خرج الشاب من الطوارئ إلى جناح التنويم بحالة مستقرة
وقلبٍ أنهكه الخوف لكنه نجا،
وعينين يملؤهما وعدٌ داخلي:
أنه سيعود إلى أهله،
وسيعانق أمّه عناقًا يذيب كل وجع،
وأنه سيحيا ما بقي من عمره وهو يعرف معنى أن يمر الإنسان بمحاذاة الموت وحيدًا ثم يُبعد عنه بفيض رحمة.
وحين زرته في جناح التنويم بعد ذلك،
كان الهدوء قد حلّ محلّ الفزع،
وكانت الحياة تعود إلى ملامحه على مهل.
وصل والداه من السفر وهما حوله على طرفي السرير يحملان في أعينهما قلق المسافات الطويلة،
لكنّ ذلك القلق ذاب لحظة رأيا ابنهما أمامهما،
حيًّا، حاضرًا، يمسك أيديهما كمن يتمسّك بالنجاة.
شكرتني أمّه بصوتٍ خافت ودموع منهمرة
وقالت إن الكلمات التي قيلت لهما في البعد
كانت أسبق إلى الطمأنينة من كل شيء.
أما أبوه،
فاكتفى بنظرة امتنان
اختصرت شكرًا أكبر من الكلام.
والتفت إليّ الشاب نفسه،
وقد بدا أكثر ثباتًا،
وقال بهدوء:
“كنتِ سببًا في أن أتجاوز هذه المحنة وحدي دون أن أنهار.”
غادرت الغرفة وأنا أدرك أن بعض اللحظات
لا تحتاج إلى ضجيج لتبقى،
وأن الطمأنينة حين تُمنح بصدق
تترك أثرها بصمتٍ طويل.
ومع خروجي،
استقرت في قلبي سكينة خفيفة،
كأن كل ما جرى قد تُرك هناك
بين سريرٍ مريض غريب
ودعاءٍ لم يُقَل بصوتٍ عالٍ،
لكنه ظلّ يخفق في داخلي.
وهناك، في العمق،
كانت هذه المناجاة تتشكّل بهدوء:
مـولاي أجفاني جفاهنَّ الكرى،
والشوقُ لاعِجُه بقلبي خيَّم.
مـولاي لي عملٌ ولكن موجبٌ لعقوبتي،
فأحنن عليّ تكرّمًا.
يا ذا العطا، يا ذا السخا،
اسقِ العطاش تكرّمًا.



