التفويض.. جوهر القيادة

بقلم الكاتبة : حنان سالم باناصر
في لحظةٍ ما من مسيرة القيادة، يكتشف القائد أن ازدحام المهام لا يعني قوة السيطرة، بل قد يكون أول إنذار على غياب التفويض الواعي. فالقائد الذي يحمل كل شيء بيديه قد ينجز اليوم، لكنه يُرهق الغد. ومن هنا يبرز السؤال الجوهري: متى يكون التفويض قوة، ومتى يتحول إلى مخاطرة؟ ليست القضية في أن نُفوِّض أو لا نُفوِّض، بل في ماذا نُفوِّض، ولمن، ولماذا. فاختيار المهمة المناسبة للتفويض ليس قرارًا إداريًا عابرًا، بل ممارسة قيادية دقيقة، تُبنى بها الثقة، ويُصنع من خلالها قادة جدد، ويُحفظ بها توازن الأداء دون المساس بجودة العمل.
ليست كل مهمة صالحة للتفويض، ولا كل تفويض يؤدي بالضرورة إلى نتائج ناجحة. فالقائد الحقيقي لا يُفوِّض بشكل عشوائي، بل يختار المهمة بوعي يشبه دقة الطبيب في وصف العلاج المناسب في التوقيت المناسب. تبدأ هذه العملية بفهم جوهر العمل ذاته: هل تتطلب المهمة خبرة القائد وحضوره المباشر؟ أم أنها فرصة عملية لتطوير قدرات أحد أفراد الفريق وصقل مهاراته؟
وعند اتخاذ قرار التفويض، يضع القائد أمامه ثلاثة معايير أساسية. أولها قابلية المهمة للتعلّم؛ فإذا كانت قائمة على خطوات واضحة ومهارات يمكن اكتسابها، فإنها تصبح مساحة تدريب واقعية داخل بيئة العمل. ثانيها القيمة التنموية للفرد؛ فالقائد الواعي يبحث دائمًا عن المهام التي تمنح الموظف فرصة للنمو، سواء عبر الاحتكاك بالعملاء، أو اتخاذ قرارات، أو قيادة جزء من مشروع. هنا يتحقق التفويض بوصفه أداة للإنجاز وبناء القيادات في آنٍ واحد. أما المعيار الثالث، فهو قدرة التفويض على تخفيف الضغط عن القائد دون الإضرار بجودة الأداء، إذ إن بعض المهام تستهلك وقت القائد رغم أنها لا تحتاج حضوره المباشر، مما يجعل تفويضها خطوة ذكية تعيد له التركيز على الأدوار الاستراتيجية التي لا يقوم بها سواه.
في أحد المواقف القيادية داخل شركة تسويق رقمي، كان القائد يستعد لإطلاق حملة كبرى لعميل مهم، ويتولى بنفسه متابعة كل التفاصيل؛ من كتابة المحتوى، وجدولة المنشورات، إلى تحليل البيانات والتواصل المباشر مع العميل. ومع تصاعد ضغط العمل، بدأ يلاحظ أن انشغاله بالتفاصيل اليومية يبعده عن دوره القيادي الأهم.
وعند مراجعة قدرات الفريق، لفت انتباهه وجود موظفة حديثة تمتلك مهارة عالية في تحليل الأرقام، لكنها لم تُمنح فرصة حقيقية للتعامل مع العملاء. هنا اتخذ القائد قراره، فاختار مهمة بعناية وقرر تفويضها لا بوصفه تخليًا عن المسؤولية، بل كاستثمار واعٍ في تطوير الكفاءة وبناء الثقة، مع الحفاظ على جودة الأداء.
وحين يُحسن القائد اختيار المهمة المناسبة، فإنه لا يقدّم عملًا فحسب، بل يفتح أمام فريقه نافذة جديدة للارتقاء والنضج المهني. ويبقى السؤال القيادي مفتوحًا: لو كنتَ في موقع هذا القائد، هل كنت ستُفوِّض هذه المهمة؟ وكيف كنت ستختارها؟



