مقالات

كتبت له الحياة مرتين

بقلم : د. سوسن توفيق حنفي 

بقلم : د. سوسن توفيق حنفي 

من سلسلة ” على عتبة العابرين “

“تمضي الأقدار كما تشاء، لا كما نشاء،لكنها حين تمضي، تمضي بلطفٍ خفيٍّ لا نراه إلا بعد النجاة.”

في مساءٍ من تلك الأمسيات التي يختلط فيها ضجيج الحياة في العمل ، كانت الطوارئ تغصّ بالحالات المتلاحقة. لا وقت للتفكير… فقط حالات متتالية وقرارات متتابعة. لكن حالة واحدة في تلك الليلة علقت في القلب، وكتبت نفسها على صفحات الذاكرة بعمق.

دخل علينا شابٌ في مقتبل عمره، وجهه مخضّبٌ بدماء الحادث، ثيابه ممزقة مصبوغة بالدماء الحمراء القاتمة، نظراته زائغة كمن يستيقظ من كابوس لم ينتهِ بعد. كان يهذي بصوتٍ متهدّج:” أمهلوني… أرجوكم أمهلوني ”

كان نداؤه غريبًا و كلماته شدتنا بتعجب وانتباه.

لم يكن الحادث عاديًا، ولا مظهر سيارته بعد الانقلاب يوحي بأن أحدًا يمكن أن ينجو منه كما أخبرنا المسعفون. تحطمت السيارة تمامًا، تلوّت مقدمتها كعلبةٍ فارغة، وتناثرت آثار الاصطدام على الطريق. من يرى المشهد يوقن أن راكبها لن يعود، لكن الله أراد له أن يعيش، ويمنحه عمراً آخر.

كان يقود سيارته عائدًا من ترتيبات ليلة العمر، منشغلاً بتفاصيل زفافه الذي سيكون غدًا ( بعد ساعات معدودة ) . غارقًا في أحلامه الصغيرة: الزينة، القاعة، الدعوات، النظرات المترقبة… لم ينتبه لتفاصيل الطريق. لحظة سرحانٍ واحدة كانت كفيلة بأن تقلب مسار حياته رأسًا على عقب.

حين وصل إلينا، كان هذيانه أول ما أثار القلق فينا. خبرتنا علمتنا أن الهذيان بعد حادثٍ عنيف قد يخفي خلفه نزيفًا دماغيًا صامتًا. بدأنا الإجراءات بسرعةٍ مشوبةٍ بقلقٍ صامت: فحص مجرى الهواء، تركيب المحاليل، فحص العلامات الحيوية، نقل الدم المحتمل… لكن كل تلك الخطوات كانت تسير على خلفية سؤال واحد يرن في صدورنا: هل أصيب بنزيف دماغي؟ هل سيكمل فرحته؟

أما هو، فكان يعيش قلقًا أعظم من قلقنا. كان ينظر إلينا بعينين ترتجفان خوفًا… لا خوفًا من الموت، بل من أن يخسر يومه المنتظر. كل لحظة انتظار لنتيجة، وكل فحص، وكل لمسة طبية، كانت تساوي لديه حياةً كاملة.

جلستُ بقربه وهو ينتظر نتيجة الأشعة المقطعية، كان الصمت كثيفًا في الغرفة، أثقل من صوت الأجهزة. رأيت في عينيه خوفًا طفوليًا، لا يشبه خوف المصابين الآخرين. كان يهمس:

«لو صار فيّ شي… زواجي بكرة…». طمأنته وشرحت له وضعه الطبي وعاهدته بأن يخرج لفرحته الموعودة بعد قليل من الصبر واليقين .

لم يكن هو فقط من يترقب نتيجة الأشعة، بل نحن أيضًا كنا نحبس أنفاسنا معه . حين ظهرت النتيجة… سليمة. لا نزيف. لا كسور داخلية. لا شيء يعكّر ليلة الغد. في تلك اللحظة، تنفّسنا جميعًا الصعداء، كأنما النجاة كانت لنا جميعًا.

دخلت أمه بعد قليل، وجهها شاحب كقلبٍ كاد يفقد نبضه. حين رأته على قيد الحياة، احتضنته وكأنها تحتضن عمراً كاملاً كاد أن يُسلب منها. كان المشهد مهيبًا: عناقٌ بين الحياة والنجاة، سالت دموعنا معه وباركنا للأم فرحتها بزواج ابنها .

ورغم الجروح التي احتاجت إلى خياطة، كان يرجونا برجاءٍ طفولي صادق:

«لا تخيطوا كثيرًا… أريد أن أبدو بخير غدًا… لا أريد أن أبدو كمن خرج من معركة».

لم يكن خائفًا من الألم، بل من أن يخدش شيء تلك الصورة التي رسمها لليلة العمر.

كان يراقب كل خطوة، يترقب كل حركة، متوجسًا من كل إجراء. ليس لأنه لا يثق بنا… بل لأن كل دقيقة تمر تقربه من موعده المنتظر، أو تؤجله. كأن حياته كلها معلّقة على نتيجة فحصٍ أو قرارٍ طبي.

لقد كانت نجاته أشبه بمعجزة. من يرى حطام سيارته يوقن أن عودته حيًا مستحيلة، لكنه خرج بخدوشٍ وجروحٍ بسيطة فقط. الله كتب له أن يعيش، ليشهد غده، ويقف بثوبه الأبيض أمام من يحب، ويبدأ حياةً كان يمكن أن تُمحى في لحظة.

وأنا أخلع قفازاتي بعد أن خرج من القسم مبتسمًا وممسكًا بيد أمه، شعرت بأننا لم ننقذ شابًا فقط… بل أنقذنا حُلمًا كان على وشك أن يُوأد.

تأملتُ طويلًا، وقلت في نفسي:

كم من الأحلام كادت أن تُدفن في غفلة؟

كم منا ينجو كل يومٍ دون أن يدرك أنه نجا؟

وكم من الأحلام المؤجلة تنتظر فقط أن نمهلها لحظة… فتزهر من جديد.

كم من إنسانٍ يعيش على حافةٍ بين الحياة والموت، بين حلمٍ مؤجلٍ وابتسامةٍ على وشك أن تولد.

تذكّرت كم هو هشّ هذا الجسد الذي نحيا به، وكم هي عظيمة الرحمة التي تُعيدنا بعد انكسارٍ كهذا.

نحن نظن أننا نعيش الأيام، لكن في الحقيقة… هناك لحظات هي التي تهب الأيام معناها.

نجاة واحدة قد تعيد ترتيب العمر كله.

خرج هو ليكمل زفافه غدًا،

وأنا بقيت هناك، أراقب الأبواب التي تُغلق وتُفتح، وأدركت أن كل مريضٍ يدخل الطوارئ – كما في الحياة – يحمل قصة قد لا تُرى لكنها قد تستحق أن تُروى وأن تحترم.

الحياة لا تُقاس بطولها، بل بتلك اللحظات التي نلمس فيها وجه الرحمة.

وفي كل مرةٍ ينجو فيها أحدهم،أشعر أن الله لا ينقذه وحده… بل ينقذ فينا شيئًا من الإيمان، من اللطف، ومن معنى أن نكون أحياء.

ولعلنا لا نعلم — ونحن نُسعف أجسادًا متعبة — أننا في الحقيقة نُسعف أنفسنا من جفاف الروح،

نستعيد شيئًا من إنسانيتنا التي تُرهقها المآسي اليومية.

كم تمرّ علينا لحظات نظن فيها أن القدر قد أدار وجهه، ثم نفاجأ أن الله كان يُمهّد لنا لطفًا أعمق مما تمنّينا.

كم من خوفٍ حمل في طيّاته نجاة، وكم من كسرٍ كان هو الباب الأول نحو الشفاء.

ولطفُكَ في البلاءِ أعزُّ لطفٍ

لأنَّي بهِ عَرَفتُكَ في البلاءِ.

في الطوارئ تعلمت أن الله قريب…

ليس فقط في الدعاء، بل في كل نبضةٍ تعود بعد سكون، وفي كل عينٍ تفتح بعد غياب، وفي كل “الحمد لله” تُقال بارتجافٍ بعد صدمة.

هناك، في قلب كل عاصفة، يختبئ لطفه، ينتظر من يستشعره ويراه.

الطب علّمني كيف أرى علامات الحياة،

لكنه أيضًا علّمني كيف أرى المعنى في كل نجاة.

كل مريضٍ يغادر السرير عائدًا إلى حياته،

يترك وراءه رسالةً خفية: أن الله إذا كتب للحياة أن تستمر، فلن يقف أمامها شيء…

وأن الرحمة تسبق الألم دائمًا، مهما تأخرت. وأن لله لطائفًا قد لا نستشعرها.

وحين هدأ المكان، شعرت أنني لم أكن شاهدة على شفاء جسدٍ فحسب، بل على معجزةٍ صغيرة من معجزات اللطف الإلهي،تقول لكل من يمرّ بامتحانٍ أو خوفٍ:

ما دام الله في التفاصيل، فالنجاة قادمة ولو بعد انكسار.

دع المقادير تجري في أعنّتها

ولا تبيتنّ إلا خاليَ البالِ

ما بين غَمضةِ عَين وانتباهتها

يغير الله من حال إلى حالِ

 

الموت الطبيعي والمفاجئ… درسان مختلفان في فلسفة الفقد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى