مقالات

بين الأمس النقي واليوم المُعلّب

بقلم :عبير بن صديق

بقلم :عبير بن صديق

في زمنٍ لم تكن فيه المعرفة تُسكب بكبسة زر، كنا نحلم… بأسرةٍ نبنيها على مهل، ونترك لخيالنا أن يرسم ملامح الحياة كطفلٍ يرسم أول بيت.

لم تكن الصورة مكتملة، ولم نرغب أن تكتمل، فبعض الجمال يسكن في الغموض… المفاجأة… ارتجال اللحظة.

إذا فكرنا في شهر العسل، نختار وجهةً نحلم بها… نقرأ سطرًا عنها، أو نراها في فيلم يتنفس بالحبر لا بالبكسل. لم نعرف تفاصيلها، ولم نرد أن نعرف.

كنا نذهب لنكتشف، لا لنؤدي طقوسًا موصوفة بمقطع “فلوغ”. نمارس الدهشة بأنفسنا، ننتقي الذكرى من قلب اللحظة، لا من عدسة غيرنا.

أما اليوم… فالعين ترى قبل القلب، وتُشبَع الرغبات خيالًا قبل أن تمسّ الواقع.

شهر العسل صار نسخة من نسخة، والمتعة مُعلبة، والتجربة مكررة.

نُمارس الحياة كما في مقطع مصوّر… تُخبرنا العدسات كيف نحب، ننبهر، نحزن، نفرح.

وكان التغيير يبدأ من الداخل: من ترتيب الغرفة، لون الجدار، حديث عائلي بسيط.

أما اليوم… فيُملَى من “الترند”، برؤية الآخرين، ذوقهم، توقيتهم، أوهامهم.

يتسلل إلى الأسرة، وحين لا يجد التربة… يتجمد في الحلم، وتظل الرغبة معلقة بين شاشة وأمنية.

وهنا، تبدأ الفجوة.

يرى الشاب أمه ناقصة، لأنها لا تواكب إيقاع الشاشة. وترى الشابة أباها كذلك، لأنه لا يعرف اسم المؤثر الجديد.

فتنشأ حلقة سخط، يغدو الملل ظلًا، وتصبح النِعم مألوفة… فمُملة… فمكروهة.

لم تعد الحياة تُكتشف، بل تُستهلك.

ولم يعد الحلم يُبنى، بل يُستورد.

ربما… نحتاج أن نغلق الشاشة قليلًا، نعيد للدهشة هيبتها، وللحلم سلطانه، وللحياة طُهرها الأول.

ما يحتاجه الشباب ليس المزيد من الشاشات، بل فراغ… صمت… تأمل… غموض جميل، ومساحات يخطّون فيها تجربتهم، لا تجربة الآخرين.

يحتاج أن يجرّب بنفسه، أن يبحث في داخله عن رغباته الصادقة، لا أن يعيش مطاردة مصوّرة، تتبعها جملة: “افعل مثلنا”.

أن يفكر: ما الحياة التي أريدها أنا؟ ما طقوسي؟ كيف أكون أبًا أو أمًا لا نسخة مكررة من مشهد؟

أن يُنجب حين يكتمل الوعي، ويربّي بقلبه لا بفلتر.

أن تصدر خياراته عن نضج، لا مجاراة.

فالحياة بتوقيع الذات، أبقى وأصدق وأجمل من أي حياةٍ بعدسة الآخر…

فالدهشة لا تسكن الصورة… بل في القلب الذي يرى للمرة الأولى.

 

الطريق الذي يعبرنا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى