مقالات

ديناميكية التغيير

بقلم : أميرة جعفر الحداد

بقلم : أميرة جعفر الحداد

بصفته كائنًا مفكّرًا في هذا الكون ومتاهات الحياة، يسعى الإنسان دومًا إلى كشف الأسرار ويجتهد في تفسيرها، غير أنّه يجد نفسه أمام لغز أكثر تعقيدًا: التفكير في ذاته وماهيّته. وفي قوله تعالى: «وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلًا» (سورة الكهف)، يبدو وكأنّ الإنسان “شيء” قد أثار التفكير والجدل والتحليل لفهمه، وهو ما انعكس في تعدّد المقاربات والنظريات المفسّرة له؛ فمنهم من رآه جوهرًا قائمًا بذاته، ومنهم من اعتبره انعكاسًا لما حوله من مؤثرات. وهنا تتجلّى علاقة ديناميكية بين الثابت والمتغيّر، وفق استعداد الإنسان لاستقبال تلك المؤثرات وإعادة تشكيل وعيه.

وفي إطار نظرية الجوهر، قدّم ابن سينا رؤيةً مزدوجة عن الإنسان، بأنه جسد مادي (الهيولى) ونفس ناطقة روحانية، والأخيرة هي التي تمكّنه من تجاوز حدود المادّة عبر الإدراك العقلي للمحيط. هذه العملية المتكرّرة والمستمرة من الإدراك والتأثّر تشكّل أساس التغيير وإعادة بناء الوعي، وتلعب الذاكرة دورًا محوريًّا باعتبارها مستودع الصور الذهنية، إذ تستدعي التجارب الماضية لتؤثر في السلوك والعلاقات مع الذات والآخرين. ويتقاطع هذا الطرح مع رؤية كانط حول حرية الإرادة، إذ اعتبر أنّ النفس هي مركز استقبال وفرز للمؤثرات، وأنّ الإنسان عبر إرادته يملك قدرة الاختيار والتغيير، إلى أيّ مدى يمكنه التحكم فيها وجعل تأثيرها يرتقي به إلى مستويات تليق بكائن مكرَّم، مفكّر وعاقل، يستخدم قدرته على التمييز بين ما هو خير أو شر، حق أو باطل. وهل ما يستقبله يبني أم يدمّر؟ وربما يصل إلى مرحلة يعلّق فيها الحكم، ليختار ماذا يريد أن يتشكّل في نفسه من جديد.

وهنا يظهر البعد التجديدي في مسيرة الإنسان؛ فكلّ صادقٍ مع نفسه يكتشف مستوى وعيه: إمّا أن يبقى أسير وعيٍ سطحيٍّ وجمعيٍّ جامد، أو يتجاوزه نحو إدراك أوسع يكشف له مسارات جديدة، أشبه بالانتقال من غرفة مغلقة إلى فضاءٍ كونيٍّ رحب.

هذا الاتساع يفتح معاني جديدة لم يكن قد وعى بها من قبل، وتبرز قيمة المواقف والتجارب اليومية كمصادر لإعادة اكتشاف المعنى. فمشهد إنسانٍ فقد عقله قد يثير تساؤلات متباينة: كيف يعيش؟ كيف يشعر تجاه عائلته؟ هل يعي ضياعه؟ هذه التساؤلات تكشف موقع كلّ متأمّل في وعيه؛ إذ قد يدرك أحدهم جمال وجود العائلة، أو يكتشف آخر نعمة الشعور بالذات والوعي بالمسار. ومن موقفٍ واحدٍ يمكن أن تتولّد معانٍ جديدة تغيّر نظرة الإنسان إلى حياته، وتعيد تشكيل أفكاره وقراراته.

وهكذا يظلّ الإنسان في رحلةٍ مستمرة بين الذات والمحيط، والذاكرة والإرادة، والتساؤل والإدراك، سعيًا إلى صياغة إنسانيّةٍ متجدّدةٍ تليق بكرامته، كونه كائنًا عاقلًا ومفكّرًا.

مع سيحة البال

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى