مقالات

عشقٌ على أبواب الطوارئ

د. سوسن توفيق حنفي

د. سوسن توفيق حنفي

أنا استشارية في طب الطوارئ، أعيش كل يومٍ بين نبضٍ يتسارع وآخر يتباطأ، وأرواحٍ تتشبّث بالحياة على شفا الفقدان. في هذه الساحة، حيث تختلط أنفاس الحياة بغرغرة الموت، وجوهٌ تتألم، وقلوبٌ ترتجف، وأعينٌ تترقّب بارقة أمل، وُلد عشقي.

كثيرون يرونه عبئًا، وأنا أراه حياة. يرونه ليلًا طويلًا مثقلاً بالإنهاك، وأراه قصيدة لا تنتهي أبياتها. وكم ذُهل من حولي حين رأوني أعود كل يومٍ إلى ذات الساحة، إلى ساحةٍ يتقاطع فيها صراخ الأطفال مع همس الأمهات وارتجاف الشيوخ. تساءلوا: ما الذي يدفع إنسانة لتتعلّق بتخصّصٍ يسرق النوم ويزرع الوجع؟ أهو حبٌّ أم جنون؟ أهو اختيارٌ أم قدر؟

ووجدتُ قول الشاعر معبّرًا عن الحال:

أصابكَ عشقٌ أم رُمِيتَ بأسهُمِ

فما هذه إلّا سجيةُ مُغرمِ

نعم، هو العشق. عشقٌ لا يُفسَّر ولا يُحدّ، يدخل الروح كما يعبر الضوء زجاج النافذة ويسكنها. عشقٌ يجعل التعب مُستلذًّا، والركض بين الحالات جهدًا مُستساغًا، واللحظات التي أنقذ فيها روحًا أعظمَ هدية يمكن أن تسعدني.

أجل، قد يكون هذا العشق مؤلمًا، يرهق الجسد ويمتحن الصبر ويؤلم النفس أحيانًا. لكن أليست كل قصص العشق الحقيقية محفوفةً بالمكابدة؟ أليس في التضحية سرُّ بقاء الهوى؟

وكم مرةٍ أسمع دعاءً صادقًا يخرج من قلب أمٍّ مهمومة، أو تنهيدة شكرٍ من أخٍ مكلوم، أو دمعة امتنانٍ من قريبٍ موجوع. تلك الدعوات التي تسبقها حرارة الإيمان هي زادي الحقيقي، وهي ما يجعلني أواصل رغم الإرهاق، وأمضي رغم العثرات. أشعر حينها أن الله – بلطفه – يفتح لي أبواب التوفيق، وأنه سخرني لهذا بدعاء والديَّ، الذي يظلّني كما يظلّ الطائر صغيره بجناحيه.

ربما يكون هذا العمل هو الشافع لي، بفضل الله، لدخول جنات النعيم، وربما يكون ما أواجهه هو الوقود الذي يشعل في قلبي جذوة العطاء كل يومٍ من جديد.

أما من يظن أنني أعيش في نارٍ لا تُطاق، فأقول له: لقد تعلّمتُ أن بعض النيران لا تحرق، بل تُضيء. وبعض السهام لا تجرح، بل تُثبت أنك اخترت قلبك الصحيح.

فيا من تسألون عن سري، لا تبحثوا في المنطق، ولا تفتّشوا في المعادلات. هو عشقٌ، وسجيةُ مغرمٍ، ولا دواء له إلّا أن أظلّ بين هذه الجدران التي يتنفّس فيها الحب على هيئة إنقاذ.

هذه المقالة هي باكورة سلسلة تأملات (على عتبة العابرين)، أدوّنها من عمق تجربتي في ساحة الطوارئ، لعلها تكشف الوجه الآخر للمهنة: وجهًا يفيض رحمةً، وإيمانًا، ورسالةً تتجاوز حدود الألم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى