عُبوّر القَلب

بقلم الكاتبة :عبير بن صديق
قد يمضي الإنسان عمره وهو يوزّع اللوم كما تُنثر الظلال على الطرقات، حتى يُثقل قلبه بما ليس فيه، ويعتم مرآة ذاته بما لا يلزم. ومع كل مرة يوجّه فيها أصابع الاتهام إلى غيره، تتراكم عليه طبقات دقيقة من العجز، تُغلق عنه رؤية حقيقتها، وتبطئ سيره نحو ما كان يحلم أن يبلغه.
فاللوم حين يُرمى بلا وعي، لا يبقى مجرد كلمة عابرة؛ بل يتحوّل إلى قيدٍ خفيّ يشد الروح للوراء، ويحبس الفعل عند عتبة التردد. وتولد من هذا القيد حسرةٌ لا تُبدّل ماضيًا، ولا تُثمر حاضرًا، بل تغرس جذورها في أرض مستقبلٍ قد يذبل قبل أن يُزهر.
ومن أعمق أشكال الحكمة، أن تُدرك بأن اللوم الذي نُلصقه بالعالم من حولنا… ليس إلا محاولة يائسة للهروب من مواجهة أنفسنا. فإذا كان اللوم على ماضٍ انقضى، فالتسامح معه — ولو بصعوبة — هو هدية الشفاء الأولى التي تمنحها لروحك. وإن كان اللوم على حاضرٍ يوجع، فمواجهة أسبابه، لا التذمّر منها، هي السبيل إلى اتساع الطريق.
واجه المواقف التي تخيفك، وواجه الأشخاص الذين يؤلمونك، وواجه ضعفك حين لا تجد سببًا غيره. وإن تعثّرت رغم جهدك، فقد يكون في هذا التعثر درسٌ لم يُكتب لك إدراكه إلا لاحقًا. المهم… ألا تجعل من اللوم دواءً؛ فالدواء الزائف يسكّن الألم، لكنه لا يعالجه، بل يطيل عمره في داخلك.
غير أن هناك لومًا واحدًا يبقى نورًا لا يُطفأ، وميزانًا لا يختل:
لوم النفس على تقصيرها في حق الله، وفي حقوق الناس التي حمّلنا الله إياها.
هذا اللوم ليس عبئًا… بل عبادة. ليس قيدًا… بل مفتاحًا. هو بابٌ يعيد الإنسان إلى جادة الصدق، وإلى سكينة يعرف بها طريقه من جديد.
فحين يعود اللوم إلى موضعه الصحيح، يتحرر القلب من ثِقله، وينهض الإنسان بخطوات أخفّ، وبفهم أعمق لجوهره، وبعينٍ ترى الآخرين برحمة، لا بعتب.
اختر أن تحيا خفيفًا…
خفيفًا من ظلال الأمس، خفيفًا من أثقال ما ليس لك، خفيفًا من جروحٍ لم تعد تُنبت إلا إرهاقًا.
وحين تخفّ، يصبح الطريق إلى الله أقرب، ويصبح داخلك أرضًا قابلة لزرع حياة جديدة.
حتى تفهم أن التحرّر من اللوم ليس تنازلًا، بل عبورًا… عبورًا نحو حياةٍ أصفى، ونحو قلبٍ يتسع، ونحو سلامٍ يولد حين تُعيد كل شيء إلى ميزانه الحق.



