تغيّر الهوية ..حين تكبر على نفسك القديمة

بقلم الكاتبة: أهداب المنديلي
يعجبني الحر؛ الذي يراجع هويته إذا ضاقت به، ولا يغيّرها لمجرّد أن يستوعبه الآخرون بسهولة.
لأن الهوية، في النهاية، ليست بطاقة تعريف تُعلّق في آخر البريد الرسمي، بل قصة يعيشها الإنسان مع نفسه قبل أن يقدّمها للعالم.
في مقال «الفترات الرمادية: كيف تصير ذاتك الأوسع؟» كان الحديث عن تلك المرحلة التي لا تكون فيها في أزمة صريحة، ولا في حالة نمو مكتملة، بل في مساحة رمادية يتثاءب فيها الداخل طويلًا بينما يبدو السطح هادئًا. هناك، كان التركيز على الإحساس الصامت بأن النسخة الحالية منك لم تعد تكفي. في هذا النص، يتحرك السؤال خطوة أعمق: ماذا يحدث لهويتك حين تستجيب لتلك الإشارة، وتقرّر أن تكبر على نفسك القديمة؟
كثيرون يتعاملون مع الهوية كشيء ثابت: اسم، خلفية، شهادة، وظيفة. لكن هذه كلها مجرد إطار عام. ما يعطي الهوية معناها الحقيقي هو القصة التي ينسجها الإنسان من هذه العناصر: من أكون؟ ماذا أمثّل؟ وما الذي يُتوقع مني؟
هذه القصة تتكوّن ببطء، ومن مصادر متعدّدة:
في البيت، يُعرَّف الفرد بدور: الكبيرة العاقلة، المسؤول، المتسامح الذي لا يرفض طلبًا.
في المدرسة والجامعة، تُبنى صورة “المجتهد”، أو “المنظّم”، أو “الاجتماعي” بحسب استجابة المحيط.
في العمل، يُعاد إنتاج الهوية في صيغة مهنية: الشخص الذي يُعتمد عليه، الذي يسدّ الفراغ، الذي ينجز بصمت.
مع الوقت، تتحول هذه الأدوار إلى إجابات جاهزة عن سؤال: من أنا؟
بدل أن نسأل: من أريد أن أكون؟
نبدأ، دون أن ننتبه، في التكيّف مع سؤال آخر: ما الدور الذي اعتاد الآخرون أن يروني فيه؟
هنا بالتحديد، تتكوّن أخطر نسخ الهوية: النسخة المريحة للجميع… وغير الصادقة مع صاحبها.
تبدأ الإشكالية حين يتقدّم العمر المهني والشخصي، وتتطوّر القدرات والتطلعات، بينما تبقى الهوية حبيسة قالب قديم. يستمر الإنسان في لعب الدور الذي يعرفه الجميع، حتى بعد أن يصبح ضيّقًا عليه.
تبدو الحياة منظمة من الخارج:
عمل واضح، علاقات مستقرة، مسمّى مهني محدد.
لكن في الداخل، يظهر شعور رمادي متكرر بأن شيئًا لا يُسمّى بعد، لم يعد في مكانه الصحيح.
تجد نفسك تتصرف كما يُفترض، لا كما تشعر.
توافق على ما لا يشبهك، فقط لأنك “الشخص الذي لا يرفض”.
تستمر في نفس القرارات، لأن هذا ما يفعله “شخص مثلك”.
في هذه اللحظة، لا تعود الهوية القديمة مصدر أمان، بل مصدر استنزاف.
تصبح التزاماتك تجاه الصورة التي يعرفك بها الآخرون أثقل من التزامك تجاه ذاتك الأوسع التي تشق طريقها بصمت من الداخل.
تغيّر الهوية لا يواجه مقاومة من الآخرين أولًا، بل منك أنت.
الاعتراف بأن ما كنتَه لسنوات لم يعد مناسبًا الآن، يتضمن ضمنيًا مراجعة قرارات سابقة:
هل كنت مخطئًا؟
أم أن ما كان مناسبًا لمرحلةٍ ما، توقّف ببساطة عن خدمتك الآن؟
هذا النوع من الأسئلة ليس سهلًا، لذلك يفضّل كثيرون أن يستمروا في تمثيل الهوية القديمة، بدل الدخول في حوار صريح مع أنفسهم. هنا يتحول الحفاظ على الهوية القديمة إلى نوع من الراحة الزائفة؛ راحة أن تبقى مفهومًا، حتى لو لم تعد صادقًا مع نفسك.
ثم تأتي مقاومة الدوائر القريبة:
الأسرة، الأصدقاء، وزملاء العمل اعتادوا عليك في صورة معيّنة: المتسامح دائمًا، المتاح دائمًا، المنجز بصمت. وحين تبدأ في تغيير هذه الصورة — بوضع حدود، أو تعديل أولوياتك، أو إعادة تعريف دورك — يُقرأ ذلك غالبًا كتمرّد شخصي، لا كتطور طبيعي.
تظهر عبارات مثل:
“تغيّرت.”
“ما عدنا نعرفك.”
“صرت رسمي/ة أكثر من اللازم.”
هم لا يرون ما يتشكل داخلك، بل يلاحظون فقط اختفاء النسخة التي ارتاحوا لها.
بيئات العمل ليست استثناءً.
المؤسسات تميل إلى الموظف ذي الهوية المتوقعة؛ الشخص الذي يؤدي نفس الدور، بنفس الطريقة، دون أن يغيّر قواعد اللعبة.
حين ينتقل شخص من دور “منفّذ مطيع” إلى دور “شريك في القرار”، أو من أن يكون “من يملأ كل الفراغات” إلى “من يضع حدودًا واضحة ويعيد توزيع الأدوار”، لا يتغيّر سلوكه فقط، بل يتغير ميزان غير معلن للقوة والمسؤولية داخل الفريق.
تغيير هوية مهنية واحدة يفرض على الآخرين أن يعيدوا تعريف طريقة تعاملهم معه:
لم يعد هو الشخص الذي يمكن أن يُطلب منه كل شيء في آخر لحظة.
لم يعد هو “طوق النجاة” الدائم الذي يغطي أخطاء الجميع.
صار شخصًا له أولويات، وله قول “نعم” و”لا” مبنية على رؤية، لا على إرضاء.
هذه الحركة ليست مريحة للجميع، ومن الطبيعي أن تُواجه بمقاومة خفية أو ظاهرة.
في هذه النقطة، يصبح الاختيار صعبًا؛ لأنه ليس بين وضع مريح وآخر مؤلم، بل بين نوعين مختلفين من الألم.
هناك ألم البقاء في هوية تجاوزتها:
استنزاف طويل الأمد، قرارات تُتخذ للحفاظ على صورة، لا لملاءمة الحقيقة،
وشعور متكرر أنك تعيش أقل مما يمكنك أن تكونه.
وهناك ألم مغادرة الهوية القديمة:
فقدان بعض العلاقات أو تغيّر شكلها،
سوء فهم مؤقت،
وفترة انتقالية رمادية تبتعد فيها عن النسخة القديمة دون أن تكتمل النسخة الجديدة.
لكن الفارق أن الألم الأول صامت، يطفئك ببطء،
بينما الثاني رغم حدّته يفتح بابًا لهوية أوسع، أكثر اتساقًا مع ما تؤمن به وما تستطيع فعلاً أن تقدّمه.
الهوية المهنية نموذج واضح لهذا التحول.
موظف قضى سنوات في دور تنفيذي، يقيس قيمته بعدد المهام المنجزة وسرعة الاستجابة، ثم ينتقل إلى دور يتطلب منه أن يفكّر أكثر مما ينفّذ، أن يرفض أكثر مما يوافق، وأن يدير الاتجاه بدل أن يدير المهام.
هنا يتغيّر تعريفه لنفسه، حتى لو لم يتغيّر مسمّاه الوظيفي على الورق:
من “الشخص الذي يعمل كثيرًا”
إلى “الشخص الذي يقرّر ما يجب أن يُعمَل”.
من “من يرضي الجميع”
إلى “من يوازن بين مصلحة العلاقة ومصلحة العمل”.
من “الحاضر في كل التفاصيل”
إلى “من يعرف متى يقترب ومتى يبتعد”.
من لا يراجع هويته عند هذا المفترق، يبقى أسيرًا لدور قديم، حتى لو حمل لقبًا جديدًا.
تغيّر الهوية في جوهره ليس إنكارًا للماضي، بل إعادة تنظيم للمعنى.
ليس مطلوبًا منك أن تتبرأ مما كنتَه، بل أن تعترف بأن المرحلة تغيّرت، وأن ما كان مناسبًا لك في وقت ما قد لا يكون عادلًا لك اليوم.
يمكن عبور هذه المرحلة بذكاء أكبر عبر خطوات بسيطة وعميقة في الوقت نفسه:
أن تسمّي ما يحدث داخلك بوضوح:
الاعتراف بأن النسخة القديمة أدّت دورها، لكنها لم تعد تكفيك الآن، يحوّل التغيّر من شعور بالذنب إلى استجابة طبيعية لمسار نضجك.
أن تعيد صياغة تعريفك لنفسك بما يناسب المرحلة الحالية؛
جملة أو جملتين تجيبان عن: من أكون الآن؟ وما الدور الذي أختار أن أتحمّله؟ ليس للنشر، بل لتعمل كبوصلة داخلية للقرارات.
أن تتقبّل مساحة “بين الهويتين”:
لا تعود كما كنت، ولم تصبح بعد كما تريد. هذه المنطقة ليست خللًا، بل امتدادًا لتلك الفترات الرمادية التي تعاد فيها صياغة علاقتك بنفسك.
أن تميّز بين الملاحظة والمقاومة:
بين نقد يكشف ثغرات حقيقية في طريقة تغيّرك، وبين محاولات لا واعية لإعادتك إلى القالب السابق فقط لأن وجودك الجديد مربك.
وأن تربط تحوّلك بما تريد بناؤه، لا بما تريد الهرب منه؛
فأعمق تحوّل في الهوية لا يحدث كرد فعل غاضب على مرحلة سابقة، بل كاختيار واعٍ للنسخة التي تريد أن تستقر فيها بعد كل هذا الاتساع الداخلي.
في النهاية، لا أحد يُطالَب بأن يعيد اختراع نفسه في كل محطة،
لكن كثيرين يدفعون ثمنًا باهظًا لأنهم تمسّكوا بهويةٍ تجاوزهُم فقط لأنها مريحة للآخرين.
التغيّر في الهوية ليس نزوة عابرة، بل جزء من أمانتك مع نفسك:
أن تعترف حين تكبر على نفسك القديمة،
وأن تمنح ذاتك فرصة أن تعيش بحجم ما تستطيع أن تكونه،
لا بحجم ما اعتادوا أن يروه فيك



