قصة.. المدينة الفاضلة

سميره التميمي
الجزء الثالث .
المدينة الفاضلة، المدينة الإفلاطونية التي كان يحلم بها زوجي، شغفه الذي جعلني أعيش عمري كله بعد فقده مشتتة الجهات إلا من اتجاهي نحو رب العالمين،
فتن زوجي بهذه المدينة، فقد كان رقيق القلب، مرهف الحس، لذا لم يستطع أن يصمد في ضجيج الموانيء ومرافيء المدن الساحرة،. وقرر أن ننتقل إلى إحدى المحافظات الكبيرة ،.
حلم زوجي كان في أفق ممتد، لا يلمسه الواقع بتاتاً،فهو قروي يحب الريف والرياض الخضراء، عكسي تماماً.
لقد كنت أقول له :أين نذهب هنا؟ لا أهل ولا أصدقاء!! غرباء وإن لم نشاء الغربة في مواطننا؟
والجنة صحراء إن خلت من أهل وخلان!!
لكنه أصر أن المحافظة هي مدينته الإفلاطونية الساحرة، هنا الفضيلة والرقي الإنساني، والسعادة البعيدة عن ضجيج الحضارة، هنا الناس الذين يستمدون أخلاقهم من جمال طبيعتهم الراقية، برود الطباع، وهدوء ردود الأفعال. وشفافية التعامل، وانسيابية الحياة، دون لهث المدنية، وتشوه الأخلاق، وحرارة الطباع، وزيف التعامل!
كنت مضطرة لقبول كل مايحلم به، بل والرضا به، فنحن سوياً نبحث عن السلام الداخلي، والإستقرار الهاديء.
كان معي حين انتقلنا طفل جميل المحيا، كل براءة الدنيا أراها في عينيه….
ثم سكتت حين لمحتُ منها إلتفاتة خاطفة نحوي، حيث علِقت نظراتها الشاردة نحو عيناي.
فقاطعتها قائلاً:
_اكملي ياخالة زينب نحن نسمعك!
_أحمد.. كان هذا هو اسمه، وكان عمره سنتان حين قدمنا إلى هنا، وكنت حينها حاملاً بطفل آخر، ذهبت للمستشفى ومعي أحمد، فلم يكن لدي أحد أضع عنده طفلي لأننا لم نتعرف حينها على أحد بعد.
لكن لما حان وقت دخولي للعيادة كشفت الطبيبة علي واخبرتني أن وضع الجنين خطير، وأن علي الأن الدخول لغرفة العمليات لإنقاذه.
ضممت ابني أحمد لحضني كأني أودعه، لم أكن أعلم ماذا أفعل، وأين أذهب؟؟
اتصلت بزوجي وأخبرته، قال لي: حسنا، سأحضر حالا لأرعى أحمد، لاتقلقي!!
مرت ساعة ولم يحضر زوجي… اتصلت به عدة مرات، زاد قلقي وهلعي، ولم أعرف لأي ركن آوي.
نادت الممرضة على اسمي مراراً وتكراراً، ولكني كنت أشعر حينها وكأن العالم كله خلا من الضجيج،. ولم يبقى سوى ضجيج قلبي وأوجاعه!!
في إحدى زوايا المستشفى، وضعت أحمد بقربي، وصليت ركعتين، ودعوت الله كثيراً أن يحفظه لي، أنهيت صلاتي، ووجدت إمرأة تجلس في كرسي الأنتظار خلفي، قصصت عليها قصتي، فقالت لي: اطمئني سأكون مرافقة لأختي هنا، وسأعتني بطفلك حتى تخرجي بالسلامة، سجلت رقم هاتفها واستودعت الله أحمد بين يديها، شعرت حينها بقلبي ينتزع مني، نعم لم يعد لي قلب بعد أن تركت أحمد كنت أسير فارغة الفؤاد، كأم موسى
وكم سليت بالأوهام نفسي
وغطَّيت الحقيقةَ بالخيال
خططتُ على الرمالِ منىً فلما
تطامى السيلُ سِلْن مع الرمال
هاتفته وأنا مقتولة الروح، أحمد سأعود إليك يابني،
سأضمك في حضني، انتظرني ياروح قلبي، وياسليل فؤادي…
فقدت الوعي حينها وقبل دخولي غرفة العمليات، ثم وجدت نفسي في غرفة موحشة، بياضها صفحة من وجع إمتلأت سطورها بين أحداقي، برودة جدرانها، لم تطفأ حرارة شوقي إليه… تمتمت أين أحمد؟ أين عبدالله؟ لم يجبني أحد، سوى نحيبي الطويل!! وأنات جسدي المتعب.
لَيْلٌ طَوِيْلٌ وَحُزْنٌ ثَقِيْلٌ
وَخَدٌّ أَسِيْلٌ وَدَمْعٌ يَسِيْل
وَذِكْرَىٰ تَلُوحُ وَرُوحٌ تَنُوحُ
وَقَلْبٌ جَرِيْحٌ وصَبْرٌ جَمِيْل
في صباح اليوم التالي…
اقتربت الممرضة نحوي، همست في أذني ، عوضك الله خيراً مما فقدتي ، لم نستطع إنقاذ جنينك! وهذا قضاء الله وقدره، أسأل الله أن يجعله فرطاً شفيعاً وذخراً لكما!
لكني حينها لم أعبأ!! قلت لها في هلع : أريد هاتفي أرجوك
ناولتني الهاتف واتصلت بالرقم…. لكن…..
لم يجبني أحد ! أرسلت رسائل عديدة، فجأة أغلق الجوال!
سألت الممرضة كم من النساء ولدن بالأمس؟؟ أرجوك احمليني إليهن …
حاولت أن تثنيني عن ذلك لأني متعبة جسدياً، لكني صرخت بعمق…. أرجوك أنا مقتولة الأن…. أرجوك لا تقتليني مرتين!! لم تجد الممرضة من سوء حالتي بُداً من نقلي على كرسي متحرك، لقد طفت جميع غرف النساء أتفحص الملامح والوجوه، لكني لم أراها، تلك المرأة التي تركت ابني عندها، ووعدتني بأنها ستعتني به كثيراً…
لا تُوهِمُوهَا بالوعودِ وترحَلوا
فَلربّما كتب الرحيل شِتاتها
بالله رفقاً بالقلوبِ فَإنهَا
تَبني على تِلك الوعودِ حياتها
تعلقي بأحمد جعلني أنسى والده عبدالله، وكل شي، لقد كنت حينها حقا بلا فؤاد، أشعر أني لم أكن أسير على الأرض، لقد كنت من وجعي ألامس السماء، تطير روحي حيث لا أدري هنا وهناك، وأعانق جحيماً لاينفك عن صدري!
ثم جاءني اتصال قضى كل ماتبقى من الأمل الذي تشبثت به طويلاً…
_ السلام عليكم ورحمة الله
_ وعليكم السلام والرحمه
_ السيدة زينب زوجة الأستاذ عبدالله!
_ نعم أنا هي زينب
_ سيدتي أنا آسف جداً. فكوني صابرة محتسبة فلله ماأخذ وله ماأعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى نحن مركز شرطة…… لقد مات بالأمس عبدالله في حادث سيارة…..
هنا توقف كل شئ عن النبض، هنا انقطع كل شئ عن الحياة…. لم أعد أدرك أين أنا؟ لقد أسود كل شيء…. لم أعد أشعر أن لدي حواس، أنا لم أعد أرى إلا سواداً حالكاً معتم، ولم أعد أسمع شيء سوى صرخاتي، ونحيبي!
عبدالله زوجي الحبيب رحل دون وداع، دون أن يصافح كفي ويحملني معه، وجنيني الذي حملته تسعة أشهر أراد أن يعانق الجنة طيراً يرفرف في نقاء دون أن يحملني على جناحيه أيضاً ، وأحمد أين أحمد لماذا لم ينتظرني؟ لماذا لم يسمع وعودي؟ هل ظن أني أخلفت عهدي فرحل! كلا كلا أعيدوه لي أرجوكم….
انقطعت أنفاس السيدة زينب… وصارت تبكي وتأن… أمسكت بيدها سوسن وحاولت تهدئتها، أحضرت قارورة ماء وبدأنا برش بعض القطرات عليها….
لقد شعرت حينها بدوار ياعادل، أردت الجلوس خلف مكتبي، شعرت بإنقباض شديد في صدري، كنت أتهادى وأنا أسير نحو مكتبي أشعر بثقل في خطواتي،. وأنين يتأجج بين ضلوعي!
وكأنّ قلبي في الضلوع جنازة
أمشي بها وحدي وكلي مأتمُ
سوسن والعم صالح كلنا كنا أشد ألماً من السيدة زينب نفسها…كنا نسمع نحيب بعضنا، وزفرات الألم تعاطفاً مع السيدة زينب.
ساد صمت طويل حتى عاد حديثها يبدد السكون.
قالت : عانيت بعدها من اكتئاب حاد لمدة أربع سنوات، كان هول الصدمة أعظم من أن افكر في اللجوء للشرطة لإعادة ابني، لا أعلم أي الأقدار التي كانت هي خيراً لي حينها، لكنني كنت أؤمن أن هناك أحمد، في مكان ما.
لقد ذهلت عن كل شيء حتى عن معرفة إسمي، وعشت السنة الأولى من الصدمة وأنا لا أعرف من أنا؟؟
وفقدت حينها جوالي وهي كل ماأملك من بقايا أمل يعيد لي أحمد!
فَلا أناْ مُفْصِحٌ عَمّا أُعانِي
ولا وَجعِي عَلى صَمْتِي يَزولُ
وضعت يداي على المكتب واتجهت برأسي للأمام وقلت لها في اهتمام ثم ماذا حدث؟
_لاشيء يابني…. سوى أني بقيت على أمل ورجاء وحسن ظن برب العالمين …. أشعر بنبض في قلبي دائم يخبرني بأن أحمد علي قيد الحياة، وأنه بخير وينتظرني…..أراد والداي بعد أن تماثلت للشفاء أن أعود لكني رفضت.
قلت لأبي : أحمد ينتظرني هنا سأراه يوماً ما يناديني في مكان ما، قد أراه في إحدى مدارس المحافظة، أو يشتري حلوى من البقالة، أو يلعب بالأرجوحة أحمد الأن عمره سبع سنوات ياأبي، لم يملك والداي حينها إلا الرضا بقراري وموافقتي عليه. وأكملت مسيرتي بالتدريس في إحدى مدارس المحافظة ولكني لم أرى أحمد إلا…… ثم رفعت نظرها نحوي ثانية ياعادل… لا أصف لك بماذا شعرت حينها، كنت أشعر بنبض غريب في قلبي، وموج من شيء مجهول يريد أن يقذف بي للبعيد!
ثم قالت : دكتور أحمد …
لم تَبْتَعِد مَازِلْت تَسْكُن دَعْوَتِي
مابين كَفِي وَالسَّمَاء السَّابِعَة”
_ ابتسمت وقلت لها أنا لست إبنك ياخالة!
قالت: أعلم ولكن أنت أنت …. ثم سكتت
قلت لها : أنا ماذا ياخالة؟
مدت يدها نحو حقيبتها واخرجت صورة طفل عمره سنتين، ثم قالت لي: هذا هو أحمد!
ثم اخرجت صورة أخرى من حقيبتها
لكننا عندما رأينا الصورة ياعادل شهقنا جميعاً طويلاً وصرخنا… أما أنا فلم تعد تحملني قدماي ياعادل من هول الصدمة!!
يتبع…



