نبدو بخير .. ولسنا كذلك

بقلم الكاتبة: حنان سالم باناصر
في زمنٍ أصبحت فيه السرعة سمةً أساسية من سمات الحياة، لم يعد الإنسان يُقاس بقدر راحته النفسية، بل بقدر ما ينجز، وما يحقق، وما يظهره من قوةٍ وثبات. ومع تراكم الضغوط المعيشية، وتسارع الإيقاع اليومي، بات الإرهاق النفسي واقعًا يعيشه كثيرون في صمت، دون أن يجدوا مساحة للفهم أو التفريغ أو حتى الاعتراف.
الصحة النفسية لم تعد قضية فردية تخص أشخاصًا بعينهم، بل تحوّلت إلى شأنٍ مجتمعي عام، يمس الأسرة، والعمل، والتعليم، والاستقرار الاجتماعي. فالتوتر المستمر، والقلق المزمن، والإجهاد النفسي، لا تتوقف آثارها عند حدود الشعور الداخلي، بل تمتد لتؤثر
في السلوك، والعلاقات، والقدرة على الإنتاج، بل وحتى الصحة الجسدية.
ورغم هذا الحضور الواضح للمشكلة، لا يزال الحديث عن الصحة النفسية في بعض المجتمعات محاطًا بالحساسية، وكأن التعب النفسي ضعف، أو الاعتراف به نقص، في حين تؤكد الدراسات الحديثة أن تجاهل الضغوط النفسية هو أحد أكبر أسباب تفاقمها، وأن الوقاية تبدأ بالوعي والفهم لا بالإنكار.
ومن المنظور الإيماني، لا تُعد الطمأنينة أمرًا هامشيًا في حياة الإنسان، بل مقصدًا أساسيًا من مقاصد الاستقرار النفسي. فالقرآن الكريم يربط بين السكينة الداخلية والاتصال الروحي، ويجعل الطمأنينة حالة قابلة للتحقق، لا حلمًا بعيدًا، قال الله تعالى:
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾..(سورة الرعد: 28)
غير أن هذه الطمأنينة لا تعني غياب التحديات أو انعدام المشاعر الصعبة، فالحزن والقلق جزء من التجربة الإنسانية، وقد مرّ بها الصالحون قبل غيرهم، لكن الفارق يكمن في كيفية التعامل معها، وعدم تركها تتحول إلى عبءٍ دائم ينهك النفس ويعطّل الحياة.
وفي هذا السياق، جاءت السنة النبوية بأسلوبٍ واقعي يعترف بالمشاعر الإنسانية، ويعلّم الإنسان أن يطلب العون حين يثقل عليه الحمل، فقد كان النبي ﷺ يستعيذ بالله من الضيق النفسي ويقول:
«اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن».(رواه البخاري)
إن هذا التوجيه النبوي يعكس وعيًا عميقًا بأثر المشاعر على الإنسان، ويؤكد أن الاهتمام بالصحة النفسية لا يتعارض مع الإيمان، بل ينسجم معه، ويعزّز قدرة الإنسان على الصبر والتوازن والاستمرار.
وفي عالمٍ يعلّمنا كيف نبدو أقوياء، أكثر مما يعلّمنا كيف نكون متوازنين، تبقى الصحة النفسية المساحة التي يحتاج الإنسان أن يُنصت فيها إلى داخله بصدق. فالعناية بالنفس ليست انسحابًا من الحياة، بل استعدادٌ ناضج لمواجهتها، وليست ضعفًا يُخفى، بل وعيًا يُحترم. وحين يدرك المجتمع أن الطمأنينة حق، وأن الراحة النفسية أساسٌ للعطاء، يصبح الحديث عن الصحة النفسية خطوة أولى نحو إنسانٍ أكثر حضورًا، وحياةٍ أكثر اتزانًا.



