عام

الذات في شعر العباس بن الأحنف_الجزء الأول

بقلم: د. آمال بوحرب _تونس

بقلم: د. آمال بوحرب _تونس

منذ القدم، شكلت الفلسفة والشعر وجهين متوازيين للبحث عن الحقيقة الإنسانية. الفيلسوف يصل إليها عبر المنطق والتأمل العقلي، بينما يغوص الشاعر في الصور والوجدان ليكشف عن أعمق تجليات النفس.

وفي هذا الإطار تتبلور تجربة العباس بن الأحنف (133هـ – 192هـ)، الشاعر العباسي الذي جعل الغزل وسيلة للتأمل في الذات والعاطفة طريقًا لفهم الوجود. القصيدة عنده مرآة يرى فيها ذاته وهي تواجه الغياب، وتختبر حدودها بين الرغبة والفقد، بين الحضور والغياب، بين الزمن الممتد واللحظة اللحظية. الشعر هنا يصبح معملًا للوعي الذاتي ومسرحًا للتحولات النفسية والوجدانية، حيث يلتقي الانفعال بالتأمل، ويصبح الحب طريقًا لاكتشاف الذات وفهم معاني الحياة.

أولًا: الذات بين الانفعال والتأمل
تظهر الذات في شعر العباس كقوة واعية تحيط بمشاعرها إحاطة المتأمل، وتعيد ترتيب انفعالاتها ضمن رؤية تفكر فيما يعتمل في الداخل بدل الانغماس التام في العاطفة. ويؤكد الدكتور صفاء عبد المهدي في بحثه حول أثر التضاد في شعر العباس أنّ الشاعر «يكشف صراعات النفس عبر مفارقات تتردد بين الرغبة والقدر»، مما يجعل الشعر مساحة للتأمل الذاتي والوعي العاطفي المتوازن.
ويعكس البيت:
“أرى الدهرَ يُدنيني إلى من أُبغِضُهُ
ويُقصيني عن من هُوَ عندي مُقرَّبُ”
وعي الشاعر بعبثية المسارات التي يفرضها القدر على الحياة، فيمزج بين الشعور والفكرة، ويحوّل الانفعال العاطفي إلى تجربة فكرية تأملية. ويبلغ هذا الوعي ذروته في البيت:
“عَجِبتُ لِمَن يَبكي فَراقَ مُحَيّاهَا
وَيَنسى الَّذي أَبكاهُ حَتّى بَكاها”
يستشهد الباحث أحمد عبد الحميد الطائي بهذا البيت في دراسته حول التحليل الدلالي للعباس، معتبرًا أنّ الشاعر «ينظر إلى تجربته من الخارج، فيرى الألم موضوعًا جديرًا بالتفكير». فالذات هنا تصبح مرآة تعيد النظر في نفسها، وتحوّل الانفعال العاطفي إلى تأمل عميق في طبيعة الشعور الإنساني، فتسبر أعماق الحب والفقد وتدرك مفارقاتهما في قلب التجربة الشعرية، فتظهر القدرة على تحويل الجرح إلى وعي والوجدان إلى تأمل فلسفي.

ثانيًا: ثنائية الحضور والغياب
العالم الشعري للعباس يقوم على توتر مستمر بين حضور الحبيب وابتعاده، فاللقاء غالبًا ما يسبق الفقد، والغياب يحضر في الذاكرة أكثر من حضوره الواقعي. يقول:
“سَقاني الغرامُ كؤوسَ الهَوى
فَما أَرواني، وَما أَظمَاني”
تشير الباحثة آمنة عبد الله السامرائي إلى أنّ العباس «يصوغ حالة الوجدان عبر مزيج من القرب البعيد والبعد القريب»، مما يجعل الحب تجربة معقدة، بين الشوق والألم، بين الرغبة والحرمان. ويصل هذا التماهي الذاتي بالمحبوبة ذروته في قوله:
“وَكَيْفَ يَطيبُ العَيشُ بَعدَ فِراقِها
وَكُلُّ الَّذي لَم تَغتَدِرْنِي فَنَاؤُها”
هنا تمتزج الذات بالمحبوبة إلى درجة أن أي بديل عنها يفقد وهجه، ويصبح الغياب حضورًا من نوع آخر، وجود يتشكّل في هيئة فقد، وفق ما يوضحه الباحث محمد عبد المطلب القيسي. فالغياب عند العباس لا يعني الفراغ، بل يشكل مساحة شعورية تمكّن الذات من مواجهة نفسها واستكشاف حدودها الوجدانية. تصبح التجربة الشعورية تأملاً وجوديًا، وتجربة الحب رحلة للتعرف على الذات في سياق آخر.

ثالثًا: الزمان فضاء شعوري
الزمن عند العباس حركة وجدانية داخلية، تتبدّل وفق ما يعايشه القلب والوجدان، فالليل يطول حين يغيب الحبيب، ويخطف حين يلوح طيفه في الذاكرة:
“أَطيلُ السُّهى إن غابَ نجمُكَ غائبًا
وَأَنْسى المَدى إن لاحَ طَيفُكَ بَينَنا”
توضح دراسة أميرة محمود عبد الرزاق أنّ الزمن عند العباس «إحساس، لا مقياس؛ وجرح، لا عدد ساعات». فالزمن يتحرك وفق نبض القلب، والذاكرة تمنح للحظات ثقلها الخاص، فتتحوّل التجربة الشعرية إلى نبض دائم بين الحضور والغياب، بين اللحظة والخلود، بحيث يصبح الشعر مساحة زمنية داخليّة، تعكس عمق الذات وتأملاتها الوجودية.

رابعًا: المكان مرآة للذات
المكان في نصوص العباس ليس مجرد فضاء خارجي، بل كيان حيّ يتحوّل وفق التجربة الشعورية، يتلوّن بالحزن أو البهجة، ويصبح شاهدًا على التحولات النفسية للشاعر:
“وَلَم أَرَ مِثلَ الدّارِ دارًا عَهِدتُها
سَقَتْها سَحابُ الحُزنِ حَتّى تَرَفَّهَا”
ويرى الباحث كمال حسن الهاشمي أنّ البعد المكاني يمثل «صوتًا داخليًا للذات، يترجم شعورها إلى معالم تتنفس الأسى». فالدار ذاكرة، والطريق وعد باللقاء، والمكان المفتوح رمز توق، والمغلق رمز انطواء، فتتحول كل زاوية إلى انعكاس لحركة الوجدان.

خامسًا: الآخر وتموجات الوعي
الآخر، وبخاصة المرأة، يمثل في شعر العباس أكثر من موضوع للحب، فهو نافذة يرى من خلالها الشاعر هشاشته وقوته على الصبر والانتظار:
“تُحِبُّ سِوايَ وَأَعلَمُ ذاكَ
وَلَكِنَّني أَتَصَبَّرُ صَبرًا”
ويرى الباحث صباح نوري العبدلي أنّ هذا البيت «يكشف قدرة الشاعر على تحويل الألم إلى معنى، والجرح إلى وعي». فالمرأة رمز لإعادة تشكيل الذات، وتأمل في حدود القدرة على الاحتمال وعمق الحاجة للوصال، فتتحوّل التجربة العاطفية إلى تجربة معرفية وفلسفية متصلة بالوعي والوجود.

سادسًا: اللغة كبيت للذات
لغة العباس رقيقة وهادئة، تشبه أنفاس المتأمل، تعتمد على التكرار والصور الوجدانية التي تبني إيقاعًا داخليًا دافئًا:
“جَفاني الهَوى حتّى كَأنّيَ أَحدُوثَةٌ
تَعُودُ اللّيالي فَتَروي صَداها”
وتشير دراسة د. قيس العزاوي إلى أنّ الشاعر «يصوغ كلمات تنبض بإيقاع داخلي، وتحوّل الفقد إلى صوت ينساب في الذاكرة». فاللغة مسكن للذات، وجسد للتجربة، وإيقاع داخلي يفتح باب التأمل في الحب والغياب والزمان والمكان، ويجعل من النص الشعري تجربة حية للتفاعل النفسي والوجداني.

خاتمة
تجربة العباس بن الأحنف تكشف تطور الذات الشعرية العربية في العصر العباسي، حيث يصبح الحب رؤية للوجود، والقصيدة مرآة تعكس أسئلة الإنسان ومشاعره. جمع الشاعر بين رقة العاطفة وعمق التأمل، فجعل من شعره نصًا ينبض بتاريخ الروح العربية في أرقى حالاتها، وتؤكد الدراسات الحديثة لصفاء عبد المهدي وآمنة السامرائي ومحمد القيسي أنّ شعره يمثل «تحولًا من الغزل بوصفه وصفًا للمحبوبة إلى الغزل بوصفه اكتشافًا للذات»، ليكون بذلك نموذجًا للتجربة الإنسانية والوجدانية في الشعر العربي القديم.

 

سكن المعنى في أفق المنفى..  قراءة وجودية في تجربة إخلاص فرنسيس بين الكتابة والهوية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
💬