مقالات

غياب الموتى وعودة الذاكرة: قراءة فنية لمجموعة “الموتى لا يطفئون شموع الميلاد” للكاتب “حسن الموسوي”

بقلم: د.آمال بو حرب

بقلم: د.آمال بو حرب

الغياب والذاكرة في النص الأدبي

في المشهد الأدبي والفلسفي يكتسي الغياب مكانة مركزية بوصفه ظاهرة تتعدى مجرد الانقطاع المادي أو الفقدان الحسي لتصبح حالة وجودية نفسية وروحية تؤثر في تجربة الإنسان للعالم والذات هو حضور مستمر بالغياب ذاته إذ يتحول إلى مساحة ذاكرة ورمز يثري النصوص ويعطيها بعدًا إنسانيًا عميقًا تؤكد الدراسات البنيوية كما يشير الناقد “صلاح فضل” أن العلاقة الجدلية بين الحضور والغياب تخلق أبعادًا فنية وجمالية متشابكة في النص الأدبي حيث يصبح الغائب حاضرًا في الذاكرة والوجدان بالرغم من غيابه الجسدي يبقى الغياب في نسيج النصوص بمثابة نبع يفيض بالعاطفة والتوتر النفسي خاصة في سياق فقد الأحبة الوطن أو الهوية ويمنح القارئ تجربة مفعمة بالوجدان والتأمل العميق.

أما ذكر الموتى فقد استخدم الأدب هذا الموضوع لتجسيد حالة الإنسانية المتطورة بين الحياة والموت وهو حالة تعبر عن تأمل في الزهد والعبور بوصفها لحظة مواجهة مفصلية تطرح أسئلة فكرية حول معنى الوجود والعدم يضيء النص من خلال الصور الرمزية كالشموع التي لا تنطفئ في الظلام على استمرار الروح وديمومة الذاكرة التي تحاول أن تعانق الحضور رغم غيابه مما يجعل من الموتى حالة أدبية مفعمة بالتهديد والتجاوز في الوقت ذاته فقد تتجسد الصور الشعرية والأدبية بآلام الغياب والحضور حيث تتماهى الذات مع حالة الغياب الحاضر وهو ما يؤكد جماليات الفقد كلغة للحضور في الأدب الحديث كما عند جماليات الفقد في الشعر العربي والنقد الأدبي هذه المفاهيم المتشابكة تجعل من الأدب ظاهرة تتخطى الحزن والتذكر لتصبح تأسيسًا لفضاء إنساني وجمالي يتحدى الموت ويعيد بناء الوجود من تحت رماده مضفياً على النصوص غنى فلسفيًا ونفسيًا عميقًا يحفز القارئ على مواجهة حياته الوجودية بغنائية وتوازن بين الألم والأمل

“الموتى لا يطفئون شموع الميلاد” وسياق الإهداء

الموتى لا يطفئون شموع الميلاد مجموعة قصصية للكاتب “حسن الموسوي” تعد تجربة نوعية في الأدب الحديث لعمق المفاهيم والتجارب التي يمر بها البطل مع كل قصة والقارئ مع كل نهاية ويعد فهم الإهداء والسياق العام للنص نقطة انطلاق مركزية لفهم الملامح الموضوعية والفلسفية التي تحكم السرد يتضح من الإهداء الذي يبدأ بتوجيه الكلمات إلى “صديقي الوحيد في وقت غاب فيه الأصدقاء وحضرت فيه المصالح” أن النص ينبض بالوحدة والغياب وهما عنوانان محوريان ينكشفان في عوالم القصص هذا الإهداء لم يقتصر على كونه رسالة شخصية ولكنه شهادة وجودية تعكس تجربة إنسانية متعمقة في خضم الفقد والغربة النفسية حيث تتحول الكلمات إلى فعل مقاومة ووعي ذاتي متجدد كما يشير النص إلى ذات صديقة تتماهى مع الكاتب فتحكي الحكاية في إطار بحث داخلي عن الذات في مواجهة الحضور الفارغ والغياب المهيمن من الناحية السيميائية فإن هذا الإهداء يعمل كعلامة مفتاحية ترمز لبنية غائرة من الافتقاد والغياب مما يدفع القارئ إلى استبصار نصوص المجموعة عبر طبقات متداخلة من الدلالة حضور الصديق في الإهداء رغم غيابه الظاهري يعيد تشكيل فضاء النص بين الحضور والغياب مبرزًا وصمة الفقد التي تلقي بظلالها على تداخلات الذاكرة والهوية

تجليات العلامات السيميائية وأثرها في بناء المعنى

في مجموعة “الموتى لا يطفئون شموع الميلاد” تتوزع العلامات السيميائية بشكل يعيد تأسيس مفهوم الوجود والغياب عبر رمزيات مركبة تمثل الحالة النفسية والوجودية للشخصيات فعلى سبيل المثال يظهر البيت المهجور كرمز محوري يعكس انقطاع الذات عن العالم مما يحول المكان إلى علامة دالة على قطع التواصل مع الذات والواقع كذلك يتكرر رمز الظل والشموع ليؤشر إلى هشاشة الحياة وسط ظلمات الغياب فالشمعة التي لا تنطفئ وتمضي مشتعلة رغم موت أصحابها تبرز عبثية الوجود وتمسك النفس بالاستمرار رغم الضعف هذا الاستخدام الرمزي يتماشى مع مفاهيم فلسفية حول الوجود والعدم حيث يؤكد النص على الصراع بين مشاعر مستمرة داخل النفس البشرية وهي حالة تربط بين التجربة الفردية والشرط الوجودي العام وتدفع القارئ إلى تأمل تأويلات متعددة تعبر عن أسئلة الهوية والعزلة والذاكرة أما من الناحية النقدية فإن مقاربة “رولان بارت” في العلاقات بين النص والرمز قد تسلط الضوء على كيفية اشتغال هذه العلامات كنصوص مستقلة داخل النص الأكبر حيث يرى “بارت” أن العلامة السيميائية تحتضن تعددية الدلالات وتوجه القارئ نحو تفسيرات متشابكة ومتغيرة

السردية والغياب

في مجموعة “الموتى لا يطفئون شموع الميلاد” يتجسد الغياب كثيمة مركزية تتفاعل مع الوجود النفسي والهوياتي للشخصيات عبر سرد عميق ومتعدد الطبقات الغياب حالة من الانقطاع الفعلي والرمزي للحضور حيث تغوص الذاكرة في فراغات تتكدس وماضٍ لا يعود فتتصاعد حالة اللاواقع التي تضع الذات في حالة تأرجح بين الوجود والعدم ففي قصة “سراب” يرى السارد كيف أن غياب الحبيب يثقل الذات كالسقوط في هاوية تعمق من شعور الانفصال الداخلي والاغتراب وتعرض هذه الحالة من خلال صور أدبية تزدحم بالرموز مثل الشموع التي لا تنطفئ والتي تحضر عاقدة وتلقي ظلالها على كل لحظة فهي حضور مستمر في غياب تأبى انتهاء الحياة لكنها تعاني من الضعف والعتمة هذا التوتر بين سطوع الشموع وظلام الغياب يستدعي القراءة الفلسفية لغياب الجوهر في الوجود بحيث يغدو الغياب ظرفًا وجوديًا وليس ظرفًا زمانيًا

التناص والنسق السردي:

تظهر في المجموعة إشارات إلى نصوص أدبية وفلسفية سابقة كما في فلسفة “ابن عربي” و”سارتر” و”هايدغر” حيث تتقاطع النصوص الحديثة مع الرموز والتجارب القديمة لتصوغ فهمًا متعدد الطبقات للغياب والوجود هذا التناص يعزز عمق القراءة ويدفع القارئ لاستكشاف الروابط بين النصوص المختلفة كما يبرز النص استخدام السرد متعدد الأصوات وتعدد المراتب الزمنية لتقديم تجربة الغياب والعودة من زوايا مختلفة مما يخلق نسقًا سرديًا متشابكًا ومتشابكًا بين الذات والذاكرة والمجتمع

العودة ومقاومة الوجود:

تتجسد العودة في المجموعة كفعل وجداني ونفسي وفلسفي يصوغ الذات في مواجهة آليات الغياب والفقد فالعودة هنا تعني محاولة استعادة الروح والذاكرة والذات التي أوشكت على التلاشي بفعل مآسي الاغتراب والخسارة في أحد النصوص يصف السارد كيف عاد المريض إلى أروقة ذاكرته كمن يعود إلى وطن ضائع منذ زمن بعيد فتعود الذاكرة لتشكل نقطة التماس بين الحاضر والماضي حيث الوعي بالغياب يولد رغبة مفارقة ومقاومة في آن وعبر هذه العودة تشكل الشموع رمزًا لاستمرارية الحياة والحركة رغم الموت والغياب فكرمز يُضاء في العتمة تحاول الذات أن تضيء وتنتصر على الظلال رغم هشاشة الوجود والذاكرة هذه العودة الرمزية التي تعبرها القصص من خلال استدعاء الطفولة الأماكن القديمة واللحظات المحفوفة بالألم تمارس فعل مقاومة وجودي ضد الاستسلام للغياب والعدم وهي تتقاطع مع مفاهيم فلسفية عميقة تتناول “الأنامنيزي” كما في فلسفة “ابن عربي” و”سارتر” الذين يرون في العودة تأكيدًا للذات واحتفاءً بالحرية التي تخترق كثافة الفقد فهو فعل إنساني متكرر يعيد تأسيس الوجود من داخل العدم ويرسم الخطوط العريضة لصياغة ذات حية تناضل وتقاوم في مواجهة الغياب المستمر والمأساوي الذي يلف النص ويشكل أفقه الوجودي 

تأملات فلسفية

يكشف الواقع الضمني في المجموعة عن حضور وجودي مستمر يشير إلى فقدان وجودي وانفصال عميق عن الذات والعالم معًا يتجلى في مأزق نفسي ووجودي يعكس حالة العزلة والانكسار ويشبه رؤية الفيلسوف الغربي “مارتن هايدغر” حيث يؤكد أن الإنسان كائن نحو الموت ومفهوم الغياب حالة دائمة تضع الإنسان أمام عتمة الوجود ولحظة مواجهة مع انعدام المعنى الظاهر في المجموعة كما في المشهد حيث الشموع تتراقص في الليل كأنها تحارب سكون الرحيل لا تعرف متى ستخبو لكنها تصر على الوجود يتجسد هذا الغياب كصرخة للوجود كرغبة في التأكيد على الذات رغم الكآبة والاضمحلال من جهة أخرى يمكن ربط هذا الغياب بمقاربة الفيلسوف العربي “ابن عربي” الذي يرى في الغياب حالة من الكتمان الإلهي والسر حيث يختبر الوجود ذاته في حالة الغياب كجزء من تجربة الوحدة المطلقة والبحث عن الحقيقة الغياب عنده تعميق للوعي الذاتي حين يفقد الإنسان ذاته المتجزئة ليصل إلى جوهره الأسمى وهو ما يتقاطع مع دواخل شخصيات المجموعة التي تعيش في حالة غياب شبه دائم لكنها تمنح النص بعدًا تأمليًا وروحانيًا

التفاعل بين النص والقارئ في فضاء الغياب والذاكرة

يمثل التفاعل بين النص والقارئ في المجموعة ذروة عملية التأويل حيث تترك مساحة واسعة للقراءة المفتوحة التي تتخطى الخطاب السردي المباشر لتغوص في عمق الذاكرة والغياب والعودة كأسئلة وجودية مفتوحة هنا يدعو النص القارئ ليكون شريكًا فاعلًا في إعادة تشكيل المعنى مستثمرًا الرموز والعلامات داخل النص التي تحمل معانٍ متراكمة ومتعددة تذهب أبعد من الأحداث لتصل إلى طبقات نفسية وفلسفية عميقة هذا التفاعل يتماشى مع رؤى الفلسفة الحديثة حول العلاقة بين النص والمتلقي وخاصة مع “مارتن هايدغر” الذي يرى أن الوجود وجود نحو الآخرين فالنص الأدبي يصبح وجودًا متجسدًا يكتمل باللقاء الحي مع القارئ كذلك يؤكد “سورين كيركغارد” على أن الوجود الفردي يتشكل في لحظات التأمل العميق وهذه اللحظات هي التي يجد فيها القارئ نفسه أمام تحدي مواجهة الغياب أو مضاعفته عبر استدعاء الذاكرة والمؤثرات النفسية مما يخلق حالة من الشتات المدروس الذي يحمل ثقل غياب الذات وحياتها

 في هذا الإطار لا يُفهم النص فقط كمجموعة حكايات بل كساحة لاستثمار الذاكرة المشبعة بالغياب حيث يصبح الغائب حاضرًا بالغياب نفسه والذاكرة المتلاشية مرآة تكشف عن الذات في لحظات التمزق والبحث النص يطرح بذلك فلسفة حضور غير مادي حيث يسقط القارئ نفسه في صميم المشهد مشاركًا في عملية التنقيب عن الرمز والطاقة الوجودية فيه محققًا بذلك مواجهة دائمة بين الذات والغياب بين الاستمرارية والانقطاع يرى الناقد “جميل الدويهي” أن النص الأدبي لا يكتمل إلا باجتماع النص والقارئ في فضاء معرفي وجودي مشترك حيث يتحول التفاعل بينهما إلى عملية استدعاء وتشكيل مستمر للمعنى ويلاحظ أن النصوص التي تستثمر عنصر الغياب والذاكرة كما في المجموعة تخلق حالة من الاشتباك النفسي والفلسفي مع القارئ فيختلط لديه المعقول باللامعقول ويضطرب يقينه في مواجهة الغياب المفتوح فتتولد حالة من الشك التأملي تؤدي إلى تجربة ذهنية مزدوجة تعيد إنتاج النص في كل قراءة هذا الرأي يتواكب مع اعتماد النص على رمزية الشموع والغياب لتوسيع الفضاء السردي إلى فضاء وجداني يحفز القارئ على الدخول إلى دوائر الذاكرة الحية والحضور الغائب حيث يظلّل النص مثل هذا التفاعل ويزيد من تشابك أبعاد الذات والوجود داخل قراءة سردية فلسفية تتلون بها الأحداث لذلك فإن القراءة فعل وجودي ترافق الذات مع نكبات الغياب وألم الفقد مما يجعل النص حالة ديناميكية متجددة تستمد قوتها من اشتباكها الحي والمستمر مع القارئ

سؤال الوجود الذاتي للكاتب  

أخيرا يجوز القول أن النص الأدبي وخاصة المجموعة فضاء سردي يعرض التجربة الإنسانية  وهو أيضًا فضاء تأملي يطرح سؤال الهوية الذاتية العميق إلى أي مدى يجد الكاتب نفسه في النص كما يوضح الناقد “جميل الدويهي” فإن النص لا يكتمل إلا بتفاعل الكاتب مع ذات النص والذات القارئة في آن حيث يصبح النص موقعًا للحوار الوجودي وليس مجرد كتابة فالكاتب مشارك في بناء النص بهويته النفسية والفكرية متلبسًا برهانات الغياب والذاكرة إذ يعكس النص تفاعلًا حيًا يمثل صلب وجوده في حال ترابط مستمر بين الذات الساردة والذات المتشكلة في النص هذا التأمل يفتح بابًا معرفيًا هامًا عن مدى امتلاك الكاتب لنصه مع تغليب البعد الوجودي كمحصلة لمراحل الغياب والعودة والتوتر النفسي والسيميائي التي تخوضها الشخصية الأدبية ثم يعيد تساؤل العلاقة بين الكتابة والذات إلى بقعة مركزية تضع النص في مواجهة الوعي بالذات والوجود يثير النص سؤال التداخل النفسي بين الكاتب وخياله الإبداعي  بمعنى هل النص يحتفظ بقدر من الغموض يسمح له بأن يكون فضاءً مفتوحا للتعددية والاختلاف داخل الذات الواحدة نفسها ؟ أم أنه يعكس فلسفة هامة عن الأدب ككيان حي مستمر في التشكل بعيدًا عن الانغلاق والانتهاء.

 

 

بين الوجودية والرمزية: قراءة معمّقة في الصوت الشعري لطاهر مشي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى