ثلاثية الوعي والهوية في البيئة المهنية

بقلم الكاتبة: احلام اليحياوي
في كل بيئة عمل، كما في الحياة، تتشكل علاقة الإنسان بذاته وبالآخرين من خلال ثلاثية أساسية: من أنا؟ من نحن؟ من هم؟
هذه الأسئلة لا تخص الفلسفة وحدها، بل تحدد جوهر التجربة المهنية لكل فرد داخل أي مؤسسة أو فريق.
1. من أنا؟ — هوية الفرد المهنية
السؤال “من أنا؟” في السياق المهني يتجاوز المسمى الوظيفي والسيرة الذاتية.
إنه سؤال المعنى والغاية: ما الذي أفعله؟ ولماذا أفعله؟ وما الذي يميزني عن غيري؟
الوعي بالذات المهنية هو ما يخلق التمايز الحقيقي، ويمنح العمل بُعده الإنساني.
لكن هذا الوعي لا يُبنى مرة واحدة؛ فهو يتطور مع الخبرة، ويتغير كلما واجه الفرد تحديات جديدة أو أعاد التفكير في قيمه ودوره.
من لا يعرف “من هو” في عمله، يسهل أن يضيع بين المهام والتعليمات، فيتحول من فاعل إلى منفذ، ومن صاحب رسالة إلى ترس في آلة.
2. من نحن؟ — هوية الفريق والمؤسسة
بعد الوعي الذاتي، يأتي الوعي الجمعي: “من نحن؟”
هذا السؤال يحدد ثقافة المؤسسة، وأخلاق الفريق، ومقدار الانسجام بين الأفراد.
فـ“نحن” هي ما يحول مجموعة من الموظفين إلى منظومة تعمل نحو هدف مشترك.
لكنها أيضًا قد تتحول إلى ضغط خفيّ يفرض التماثل ويخنق الاختلاف.
حين يُستخدم الانتماء لتبرير الصمت أو إلغاء الفردية، يفقد الفريق قدرته على الإبداع.
الوعي الناضج بـ“نحن” يقوم على التوازن بين الانتماء والمسؤولية:
أن أكون جزءًا من الكل دون أن أفقد حقي في التفكير المختلف.
3. من هم؟ — الآخرون في بيئة العمل
“هم” هم الشركاء والمنافسون والعملاء وحتى الإدارات الأخرى داخل المؤسسة.
طريقة تعاملنا معهم تكشف مستوى نضجنا المهني.
حين نرى “هم” كخصوم دائمين، نخلق بيئة توتر وانغلاق.
وحين نراهم كحلفاء محتمَلين، نفتح باب التعاون والتطور.
في البيئات الحديثة، لم يعد الآخر “خصمًا” بل محفزًا للتعلم والمساءلة.
المنظمات التي تدرك قيمة “الآخر” سواء كان زميلًا مختلفًا أو مؤسسة منافسة هي القادرة على التقدم المستمر.
كل خلل مهني هو في جوهره خلل في هذه الثلاثية:
• غياب “الأنا” يؤدي إلى التبعية وضعف المبادرة.
• غياب “النحن” يولّد العزلة وفقدان الانتماء.
• وغياب “الهم” يخلق انغلاقًا مؤسسيًا وجهلًا بالسياق الخارجي.
والاحتراف الحقيقي يبدأ حين يدرك الإنسان أن هويته المهنية تُبنى من تفاعل هذه الأضلاع الثلاثة:أن يعرف نفسه، ويشارك جماعته، ويتفاعل بوعي مع الآخرين.
وحين تتوازن هذه الأسئلة، تتحول المهنة من مجرد وسيلة للعيش إلى ساحة لنضج الإنسان ونمو وعيه.



