مقالات

بصيرة النعمة

بقلم الكاتبة :عبير بن صديق

بقلم الكاتبة :عبير بن صديق

من أسمى ما يُوهب للإنسان أن تُفتح في داخله عين لا تنظر، بل تُبصر. أن يرى النعمة لا كاعتيادٍ يوميٍّ باهت، بل كدهشة متجددة تنبض بالحمد. فكم من نعمةٍ عَبَرَت الأبصار ولم تلمس القلوب، لأن البصيرة كانت غائبة.

إنه نوعٌ من الوعي العميق، أن تدرك أن ما بين يديك ليس عشوائيًا، بل مُنَسّق بعناية لتناسب سعة قلبك ومسار روحك. فالكفاية ليست في وفرة الأشياء، بل في سكون القلب حين يتيقن أن كل ما وُهب له كافٍ تمامًا لرحلته، ولرسالته في هذا الوجود.

أما أشدّ صور الفقد خفاءً، فأن يفقد الإنسان حسّ الامتنان دون أن يشعر، فيبدأ بصره يتيه في بساتين الآخرين، متناسيًا أن لكل بستانٍ فصوله، ولكل ثمرةٍ عرقُ صاحبها وسهره. فالمقارنة ليست عجزًا في القدرات، بل انحرافٌ في البوصلة، إذ تغيب الحقيقة الأبدية: أن نصيبك لا يشبه أحدًا، لأنه صُنع لك وحدك.

ومن يُحاكم نفسه بميزان الآخرين، يظلمها مرتين: مرة حين يقلّل من نعمه، ومرة حين يعجز عن رؤيتها. ينظر إلى قممٍ لم يصعدها، ويجهل أن تحت كل مجدٍ هاوية من صبرٍ وتجربةٍ ووجع. فينقلب الامتنان في قلبه حسرةً، ويتحوّل السعي إلى غيرةٍ مقنّعة بثوب النقد.

وحين يتورّط المرء في النظر بعين الغيرة لا بعين البصيرة، يُصبح عاريًا أمام نفسه؛ فكل ما حوله يبدو ناقصًا، حتى ابتسامته. يعلّق فرحه على سواهم، وينسى أن في داخله بستانًا ينتظر قطرة وعيٍ واحدة ليزهر.

إن الوعي الحقيقي ليس أن ترى النعمة، بل أن تُبصر حكمتها، أن تدرك كيف تنسج خيوط حياتك دون ضجيج، وكيف تفتح لك أبوابًا لم تكن لتراها بعينٍ عادية.

وهنا، في تلك اللحظة التي تتجلّى فيها الرؤية، لا يعود الامتنان ردّ فعل، بل حالة وجود. إنها اللحظة التي تُدرك فيها أن النعمة لا تُرى بالعين، بل تُستشعر بالبصيرة.

 

فرط الوعي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى