الالتزام وصناعة التفوق

بقلم الكاتبة حنان سالم باناصر
في رحاب الحياة، يتساءل الكثيرون: لماذا يبدو النجاح وكأنه نزهة سهلة للبعض، بينما هو درب محفوف بالمعاناة للبعض الآخر؟ هل هي الموهبة الفطرية أم الظروف المواتية؟ الحقيقة التي يغفل عنها كثيرون هي أن السر لا يكمن في هبات القدر، بل في مهارة واحدة قوية وعميقة: الالتزام. هو تلك القوة التي تحول النوايا الحسنة إلى إنجازات ملموسة، وهو ليس مجرد خيار حياتي، بل هو واجب تأصّل في توجيهاتنا الدينية ودراساتنا العلمية على حد سواء. فالوصول إلى هذه المهارة قد يتطلب جهداً كبيراً، ولكنه استثمار يضمن لك بلوغ المبتغى، متجسداً في الأمر الإلهي الصريح بالكد والاجتهاد بعد الفراغ من عمل سابق، كما ورد في قوله تعالى: “فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ” (الشرح: 7)، أي داوم على العمل والانتقال من جهد إلى جهد.
ولصناعة هذا التفوق، تبدأ الرحلة ليس بالفعل، بل في التصوّر. قبل أن تخطو أولى خطواتك، تخيل هدفك حياً ونابضاً؛ أغلق عينيك واسمح لمخيلتك برسم الصورة النهائية، كيف ستبدو حياتك وما هي المشاعر التي ستغمرك؟ هذا التصور هو الوقود الذي سيبقيك مشتعلاً عندما تخفت الهمم. يأتي بعدها دور تصميم خريطة العمل، حيث تتحول الأهداف العائمة إلى أفعال محددة. لا تهتم بملء الجدول كاملاً دفعة واحدة، بل ابدأ بالعناوين الرئيسية وأضف التفاصيل تدريجياً؛ حدد الإجراء المطلوب، وقت البدء، المعوقات المتوقعة، وكيف ستقيم تقدمك، فهذا الجدول البسيط هو بوصلتك التي تستلهم منهجية التخطيط الحكيم.
ومع اكتمال التخطيط النظري، ننتقل إلى الحيز العملي، حيث تختزل حكمة “التحضير الجيد نصف النجاح” الخطوة التالية وهي الاستعداد للانطلاق. جهز كل ما تحتاجه قبل البدء وحدد موعداً واقعياً، واسأل نفسك: ما هي الإجراءات التي ستقربني من هدفي؟ قد تكون بسيطة مثل ترتيب مكان العمل، أو التحضير المسبق للأدوات. لكن الطريق ليس مفروشاً بالورود، وهنا يأتي دور المراقبة والتقويم المستمر؛ لا تترك نفسك للصدفة، تابع تقدمك بانتظام، فالالتزام الحقيقي لا يعني التصلب، بل يعني المرونة في التعديل والإصرار على الاستمرار، وهو ما أكدت عليه دراسات في علم النفس الحديث، كأبحاث الدكتورة أنجيلا دكوورث حول “الجُرأة والمثابرة” (Grit)، والتي أثبتت أن القدرة على المثابرة طويلة المدى أهم من الذكاء الفطري في تحقيق النجاح. النقطة الحاسمة التي تظهر الفرق بين الملتزم والمستسلم هي التحلي بعقلية النمو، إذ يجب تقبل أنك ستواجه عقبات لم تتوقعها، واعتبار كل عثرة فرصة للتعلم، وكل تحدٍ فرصة للنمو. إنها العقلية التي لا تخاف من الفشل، بل تراه معلماً.
في الختام، الالتزام ليس مجرد كلمة؛ إنه الجسر المتين الذي يعبر بك من ضباب الحلم إلى وضوح الواقع، ومن النية الغامضة إلى الإنجاز الباهر. إنه ما يمنح الخطط روحها، والأهداف قدرتها على الحياة، وهو المبدأ الذي يضمن لك البركة في جهدك والسداد في مسعاك.


