بوصلة القيم في عاصفة المصالح

بقلم الكاتبة : حنان سالم باناصر
في زمن تتشابك فيه المصالح وتعلو فيه الضوضاء، تبقى القيم هي البوصلة الوحيدة القادرة على حفظ اتجاه القيادة. فالقائد الحقيقي ليس من يجمع المكاسب السريعة، بل من يظل ثابتًا أمام لحظات الاختبار، حين يتعارض المكسب العاجل مع المبدأ. والتاريخ مليء بمن ضلّوا الطريق حين لاح لهم بريق المصلحة، كما أنه لا ينسى أولئك الذين اختاروا الوفاء للقيم ولو خسروا ظاهرًا.
ويكفي أن نقف أمام ذلك الموقف الخالد في السيرة النبوية، حين عرضت قريش على النبي محمد صلى الله عليه وسلم المال والملك والمكانة ليترك دعوته، فجاء رده الحاسم: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته». الرواية وردت في السيرة النبوية لابن هشام، وفي دلائل النبوة للبيهقي، وتكشف أن القيادة في جوهرها التزام أخلاقي قبل أن تكون سلطة.
غير أن التحديات التي تواجه القيادة اليوم تختلف عن إغراءات الماضي. فالعصر الرقمي جاء بضغط من نوع جديد؛ ضغط هادئ لكنه عميق. التكنولوجيا لم تعد مجرد وسيلة، بل أصبحت بيئة تعيد تشكيل طريقة التفكير وترتيب القيم والأولويات.
دراسات صادرة عن معهد MIT تشير إلى أن سرعة التفاعل الرقمي تقلص مساحة التأمل، وتدفع الأفراد لاتخاذ قرارات أخلاقية أقل نضجًا. وفي تقارير منشورة عن Harvard Kennedy School، يبرز مفهوم “تآكل العمق الأخلاقي” نتيجة لثقافة التفاعل السريع، حيث يحل الانطباع محل الفكرة، والضجيج محل القناعة.
أما في بيئات التواصل المجهولة الهوية، التي تناولتها تقارير American Psychological Association، فتبرز مشكلة تراجع النزاهة والصدق، إذ يسهل التلاعب بالحقائق وإعادة صياغة الذات بشكل لا يعكس الحقيقة. وفي أبحاث Oxford Internet Institute يظهر تغير واضح في معايير الحكم على القادة، فالمقاييس تميل نحو “الأكثر شهرة” بدل “الأكثر استقامة”، و”الأوسع انتشارًا” بدل “الأكثر كفاءة”.
هذه التحولات تضع القيادة أمام سؤال مستمر: هل يتبع القائد ما يرضي خوارزميات الجمهور، أم ما يرضي ضميره؟ هل يلاحق النجاح العاجل، أم يظل وفيًا للطريق الذي قد يكون أطول لكنه أكثر نزاهة؟
العصر الرقمي لا يغيّر قيمة المبدأ، لكنه يكشف من يملك الشجاعة للتمسك به. ومن يريد أن يبقى قائدًا بمعنى القيادة، لا بمعنى الشهرة، يعرف أن القيمة أثقل من المصلحة، وأن الضمير أصدق من ضوء الشاشة


