حين انطفأت المعجزة

بقلم: د. سوسن توفيق حنفي
من سلسلة ” على عتبة العابرين “
لم تكن تلك الليلة مختلفة عن غيرها،
لكنها كانت تخبئ خلف ستارها مأساة لا تشبه سواها.
الطوارئ تغصّ كالعادة بأصوات الأجهزة والأنفاس،
أضواء باهتة تتراقص على وجوهٍ مرهقة،
حينما دخلت علي طفلة، كانت كضوءٍ صغيرٍ من بدر منتصف الشهر يشقّ العتمة.
في السابعة من عمرها، بخطواتٍ خفيفةٍ وابتسامةٍ تشع براءة وعذوبة.
تشكو ألمًا بسيطًا في الحلق وارتفاعًا طفيفًا في الحرارة.
جلست أمامي، وجهها يفيض حياةً،
تعبث بخصلات شعرها ببراءةٍ كأنها تُحادث الزمن دون خوف.
ثوانٍ قليلة فقط…
ثم مالت كما تميل زهرةٌ غافلتها الريح.
سقطت عن الكرسي، وسقط معها كل ما في المكان من يقين.
انحنيتُ إليها… ناديتها فلم تستجب، بحثت عن نبضٍ فلم أجد.
ذلك الجسد الصغير الذي كان قبل لحظةٍ يضحك،
صار بين يديّ ساكنًا كومضة ضوءٍ انطفأت فجأة.
بدأت الإنعاش بكل ما فيّ من علمٍ ورجاء،
كانت الأيدي تضغط على صدرها كمن يُريد عبثا أن يعيد الكون إلى بدايته،
وكل دفعة هواءٍ كانت صرخة رجاءٍ تُرسل للسماء.
الأجهزة مازالت ترسم خطوطًا مستقيمة،
كأن الموت وقف بيننا يتأملنا في هدوء.
جربت كل ما في الطب من أمل، فكرت في كل الاحتمالات ، تسمم من عقار ! خلل في أملاح الدم !! حموضة !! سكري لم يشخص؟! كل الطاقم الطبي صار يفكر بصوت عال واحد .
لكنها رغم ذلك كانت تسير بعيدًا… بخفةٍ تشبه الطيف، حتى لاح بعيدًا تماما وأيقنت أنني عبثًا أحاول .
وحين توقفت الأجهزة، شعرت أن قلبي هو من توقف لا الآلة.
رغم أنني تدرّبتُ طويلًا في دراستي لطبّ الطوارئ على كيفية نقل الأخبار السيئة،
وعلى فنّ مواساة أهل المرضى والمتوفّين بصدقٍ واتزان،
إلا أن هذه الحالة كانت ثقيلةً جدًا على قلبي،
كأنها امتحانٌ خارج حدود الخبرة والعلم،
امتحانٌ إنسانيّ يجعل الطبيب يشعر بأنه -مهما بلغ من القوة -يبقى هشًّا أمام وجع الأمومة والفقد.
جلست بعدها أمام أمها.
وجهها ذاهل، عيناها محيطان بلا شاطئ ولا ضفاف،
تحاول أن تمسك بيد طفلتها كمن يحاول إقناع الحياة أن تعود، ويدها لا تزال تحمل ربطة شعرٍ صغيرة كانت لابنتها.
ترددت، ثم خرجت مني جملةٌ عفوية لم أقصدها:
“العوض في البقية يا أم الصغيرة…”
رفعت رأسها إليّ، وابتلع المكان صمتها وهي تقول بصوتٍ مبحوح:
“ما عندي بقية… هي الكل والبقية.
ثلاثون سنة من الانتظار،
قالوا لي لا أمل، لا رحم يحمل حياة.
ثم جاءتني بعد يأسٍ طويل…
معجزةٌ مشت على الأرض، ثم رحلت بلا وداع.”
تكسّرت كل الكلمات في فمي،
وأحسستُ أن روحي انكمشت خجلًا من عبارتي.
اقتربت منها، قبلتُ رأسها، وضَمَمتها إلى صدري كما تُضمّ طفلةٌ أخرى.
كانت تهتز بين يديّ كغصنٍ في عاصفة،
فربّتُّ على كتفها علّ اللمسة تُسكِت وجعها.
لكن أي لمسةٍ تُعيد حياةً، وأي كلمةٍ تُواسي أمًّا فقدت معجزتها؟
بكيت معها بصمتٍ لم يسمعه أحد،
بكيت لأن الألم في عينيها كان أوسع من أي علمٍ تعلمته.
في تلك اللحظة فهمت أن الرحمة ليست وصفًا في ميثاق الطبيب،
بل وجعٌ مشترك يُعلّمنا كيف ننحني أمام أقدار الله.
ومن يومها، كل كلمةٍ أقولها صارت ميزانًا أخاف أن يختلّ.
تعلمت أن الكلمة قد تكون كجرعة دواءٍ تشفي،
أو كحدّ السكين تنزف منها القلوب.
الفقـد الذي يتكرّر كل يوم
تعلمت أن الفقد لا يُعاش مرّة واحدة،
بل يتسلّل إلى أيامنا على هيئة ظلالٍ لا تُرى،
ويعود كلّما حاولنا أن نُقنع أنفسنا بأننا تجاوزناه.
هو لا يحدث فقط عند الرحيل،
بل يتكرّر في كل صباحٍ لم نسمع فيه صوته،
في كل مساءٍ لم يأتِ،
في كل مناسبةٍ كان سيحبّ حضورها ولم يحضر.
نراه في ملامحٍ تشبهه،
في شخص يضحك بطريقته،
في رائحةٍ عابرةٍ تعيدنا إلى زمنٍ كان لنا فيه وطن من الأمان.
نراه في نغمة أغنيةٍ كان يرددها،
وفي لون قميصٍ اعتاد أن يلبسه،
وفي طريقٍ مررنا به سويًا ذات يوم.
الفقد يتكرّر حين نضحك… فنلتفت باحثين عن من كان سيضحك معنا،
وحين نحزن… فنمدّ أيدينا فلا نجد اليد التي كانت تمسح عنا التعب.
يتكرّر حين ننجح ولا نجد من كان يفرح لأجلنا أكثر منا.
وحين نمرض فنفتقد صوتهم الذي كان يوصينا بالدفء والدعاء.
إنه ذاكرةٌ تمشي معنا دون أن نراها.
كلّ ما يشبههم يصير مقدّسًا لدينا:
نحبّ رائحتهم في العطور، وضحكتهم في الآخرين،
نحبّ الشتاء لأنهم كانوا يحبونه،
ونكره المساء لأنه يذكّرنا بغيابهم.
نحبّ الأماكن التي مرّوا بها،
والأشياء التي لامسوها،
بل حتى الحديث الذي كان يجمعنا بهم،
يصير حديثًا نردده ونسمعه وحدنا.
ذلك هو الفقد الحقيقي:
أن يظلّ الغائب حاضرًا في تفاصيلنا الصغيرة،
أن يكون معنا دون أن يكون،
وأن تظلّ الحياة بعده ناقصة مهما ازدحمت بالناس.
صرت أتأمل كل فقدٍ حولي:
فقدُ طفلٍ، فقدُ أم، فقدُ أب، فقدُ حبيبٍ غائب،
كلها وجوهٌ مختلفة للموت ذاته –
موتُ الحضور، موتُ الصوت، موتُ اللمسة.
فالفقد لا يزورنا على هيئة موتٍ فقط،
بل يسكننا حين نودّع من نحب،
وحين نتوقف عن سماع صوتٍ اعتدناه،
وحين نكتشف أن الحياة لا تُعيد أحدًا مهما توسّلنا إليها.
وها أنا، بعد أعوامٍ طوال من تلك الليلة،
كلما رأيت أمًّا تضم طفلها في ممرّ الطوارئ،
أغضّ بصري قليلًا وأقول في نفسي:
اللهم احفظ المعجزات الصغيرة،
واحفظ لكل أمٍّ ضوءها الذي لا يُعوّض.
كلّما تأملتُ الحياة والموت، تذكرتُ أننا جميعًا نسير في طريقٍ واحد،
مهما اختلفت بداياتنا ونهاياتنا، فالحقيقة واحدة:
خُلِقنا لِلحَياةِ وَلِلمَماتِ،
وَمِن هَذَينِ كُلُّ الحادِثاتِ.
فما بين الميلاد والرحيل،
ليست إلا رحلةٌ من الضوء إلى الظل،
من نبضةٍ أولى إلى سكونٍ أخير.
تأمّلْ: هل ترى إلا شِباكاً
من الأيّامِ حولكَ مُلقَيات؟
ولو أنَّ الجهاتِ خُلِقنَ سَبعًا،
لكانَ الموتُ سابعةَ الجهات.
نعم…
الأيام شِباكٌ تُلقى حولنا بهدوء،
كل يومٍ خيط جديد يُضاف إلى فخاخ العمر،
حتى إذا اكتملت الدائرة، وجدنا الموتَ وجهًا سابعًا للحياة،الجهة التي لا نراها، لكنها تنتظرنا بصبرٍ خلف كل الفصول.
وهكذا، نمضي ونحن نظن أننا نبتعد عن النهاية،
بينما نحن نقترب منها خطوةً بخطوة،
كمن يسير في دائرةٍ يظنها طريقًا مستقيمًا.
ربما لم يُخلق الإنسان ليفهم الموت،
بل ليزداد وعيًا بالحياة كلّما اقترب منه.
نظن أننا نكبر بالسنوات،
لكننا في الحقيقة نكبر بالفقد .
بكل من غاب، وبكل لحظةٍ سرقت منّا معنى الأمان.
نتعلّم أن الحزن لا يمرّ… بل يتعايش معنا،
يتحوّل إلى طبقةٍ شفافةٍ تكسو القلب،
تجعله ألينَ للناس، وأقربَ لله.
نُدرك في النهاية أن كل حبٍّ صادقٍ ينجو من الموت،
لأنه يتحوّل إلى نورٍ يسكن الذاكرة،
إلى أثرٍ لا يُمحى، وإلى وجعٍ جميلٍ لا نريد الشفاء منه.
هو الفِراق إذًا؟! ما كنتُ أعرِفُهُ
لا شيءَ يُشبِهُهُ في شِدَّةِ الألَمِ
كلُّ الجِراحِ إذا داويتَها بَرِئَتْ
إلا الفِراقُ فجُرحٌ غيرُ مُلتئِمِ



