حين أتى الحلم بعد الرحيل..من سلسلة ” على عتبة العابرين”


بقلم :د. سوسن توفيق حنفي
في ذلك الصباح الذي كانت فيه الطوارئ تضج بالحياة كما لو أن المدينة كلها قررت أن تمر من هنا،
كانت الممرات تعج بالأنين، وصدى الأجهزة والضجيج يتردد في كل زاوية.
أجهزة المراقبة ترسم موسيقى متقطعة من أصواتٍ حادة،وكل سريرٍ يحتضن حكاية مختلفة .
بين زحمة المرضى، ووقع خطوات الأطباء، وأصوات الأجهزة التي لا تهدأ،وحين قارب دوامي على الانتهاء وأنا في قمة الانهاك .
جاء البلاغ… امرأة حامل في شهرها الثامن، توقّف قلبها في الطريق، والإسعاف في طريقه إلينا.
لم يكن البلاغ خبرًا عابرًا، بل صرخة قدرٍ تقتحم صخب النهار.
في لحظةٍ، تبدّل وقع اليوم بأحداثه كلها في صدري ، وكأن العالم كله انكمش ليتسع لامرأةٍ واحدة وطفلٍ لم يولد بعد.
استدعيت فريق النساء والولادة، وأطباء عناية حديثي الولادة.
تبادلنا النظرات سريعًا، نظراتٍ يعرفها من تعوّد الوقوف على حافة بين الحياة والموت.
في الطوارئ، لا وقت للتفكير الطويل بل للقرارات
السريعة الجريئة التي تُتخذ بيدٍ مستعجلة واثقة
وداخلٍ يصلي.. دخلت المريضة محمولةً على نقالةٍ
بيضاء، بياضٌ يشبه الرحيل أكثر مما يشبه الحياة.
ساكنةٌ بلا نبض، كأن الزمن توقف داخل جسدها.
بدأنا الإنعاش القلبي الرئوي، وكل ضغطةٍ على صدرها
كانت أشبه بنداءٍ حارٍ للحياة ألا ترحل.
الوقت كان يمضي كالسيف، لا كالدقيقة.
ثم جاءت اللحظة التي أضاء فيها بصيص الرجاء:
نبض الجنين… ما يزال موجودًا، وكأن الجنين ينادي
من خلف شاشة الأشعة ” أنا هنا ” .
كان خافتًا لكنه عنيد، كزهرةٍ تقاوم العاصفة.
في لحظةٍ لم تتجاوز الأنفاس، اتخذنا القرار.
قيصرية إنعاشية في قلب الطوارئ.
السكين تشق البطن، لا لتقتل، بل لتفتح بابًا للحياة.
الأجهزة تصدر أصواتها المتلاحقة، وجوه الفرق
المشحوذة مشدودة، فريق ينعش المريضة وفريق
يشق بطنها ويخرج الجنين وفريق متأهب لتلقيه
خارجًا من أحشائها والدعاء يختنق في الصدور.
ثم… صرخة، صرخةُ حياةٍ اخترقت ضجيج الأجهزة.
خرج الطفل إلى الدنيا من رحمٍ توقّف نبضه،
كأن الحياة قررت أن تنتزع نفسها من بين أنياب
الموت.. أما هي… فقد بقيت هناك، على الحافة.
أنعشناها كما يُنعش غريقٌ على شاطئ الرجاء، لكن
الموت كان أسرع.
أيقنت أنّ لحظة اليقين أوشكت لا محالة بعد مجهود
طويل أعلنت وفاتها، وساد المكان صمتٌ يوجع أكثر
من العويل. همست في أذنها بالشهادة، وطمأنتها بعدها
أن ولدها خرج للحياة بسلام، واستودعتها عند السلام.
تخيلتها كانت —كما كل أم— تعدّ الأيام والليالي،
تراقب حركة جنينها،تضع يدها على بطنها مع كل
رفسة منه فتبتسم، تتخيّل ملامحه،تنتظر اللحظة التي
تحمله فيها بين ذراعيها،تشتم رائحته الأولى، وتغرق في حنانه الصغير.
لكن… تلك اللحظة التي كانت تحلم بها لم تأتِ.
أحلامها توقفت على باب الطوارئ، كما توقّف قلبها.
جالت عيني باتجاه الطفل… صغيرٌ، هشٌّ، خرج إلى
الحياة دون أن يعرف حضن أمه،لم يسمع نبضها، ولم
يعرف دفء صوتها، لم يلتق عينيها، ولم يسمع صوتها
وضحكتها التي كانت تحلم أن تهدهده بها.
وُلد من رحم بارد ، يتيمًا منذ اللحظة الأولى.
تخيلت الطفل لو كان ينطق لعبر عن حاله ببيت لبيد بن ربيعة عندما قال :
ذهبَ الذينَ يُعاشُ في أكنافِهمْ
وبقيتُ في خَلَفٍ كجِلدِ الأجربِ
أيقنت أن بعض الأماني تولد، لكن بعد رحيل أصحابها.
ذلك الطفل… سيكبر.
لكن في قلبه فراغٌ لن يُملأ، وخواء روح لم يملأه
صوت أم بحنان يناديه يومًا: «يا بني».
أما أنا… فسأحمل وجه تلك الأم، وصرخة ذاك الوليد،
كوشمٍ في روحي،لأن بعض الحالات لا تُغلق بختمٍ على
ورقة، بل تظلّ مفتوحة في القلب إلى الأبد.