مقالات

ومضة من نور في سورة العصر

أمير الحداد

أمير الحداد

في تأملاتنا القرآنية، لا نكاد نفيق من إبهار إحدى آيات الإعجاز العلمي ومنهجيّاته المعرفية، حتى يتجلّى لنا المزيد من الفهم عند التعمّق في التأمل والتفكر. وربما في لحظةٍ ما نصل إلى معنى لآيةٍ طالما رددناها دون أن ننتبه إلى عمقها أو نقف على مفهومها من قبل.
وفي عالم اليوم، حيث تتكاثف الضغوط وتتسارع الإيقاعات، فتبدو سورة العصر ذات الآيات الثلاث منارةً خالدةً تعيد للإنسان اتزانه وتوازنه الداخلي. فهي تحمل في عمقها منهجية لتجاوز المواقف العصيبة، خاصة في زمنٍ يُقاس فيه النجاح بالمكاسب السريعة والمظاهر العابرة، لتذكّرنا بأن خسارة النفس أعظم من خسارة الدنيا،
يأتي هذا التأمل بالتزامن مع اليوم العالمي للصحة النفسية ونتعلم منهجية قرآنية لعبور الأزمات بسلام، حيث تكشف السورة عن الصراع النفسيّ الذي قد يعيشه الإنسان، فيسعى للانتصار لذاته خروجًا بأكبر مكسبٍ ممكن، أو محاولةً لتفادي الخسائر المحتملة، أو ربما يستسلم لتلك المواقف التي قد تُلقي به في قاعٍ مظلمٍ تحجب عنه بصيرته.
جاء القسم الإلهي في مطلع السورة: “والعصر”، وهو قسمٌ بالزمن، قسمٌ مطلق يشمل زمننا وزمن السابقين واللاحقين، بكل ما يحمله كل عصرٍ من تشكيلاتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وإنسانية. كما يتسع المعنى ليشمل كل مرحلةٍ زمنيةٍ من حياة الإنسان، يمرّ فيها بتجارب ومواقف قد تأخذه إلى منحًى معاكسٍ لرغباته وآماله.
ثم تأتي الآية الثانية بتأكيدٍ إلهيٍّ على حقيقة الخسارة التي قد تعترض الإنسان في عصره ورحلته الحياتية، وما يواجهه من تياراتٍ وأزماتٍ تضعه أمام نتيجةٍ حتميةٍ إن هو تخلّى عن وعيه وثوابته: “إن الإنسان لفي خسر”. أي أن الإنسان، بإنسانيته وقيمه وذاته التي بناها عبر السنين، يكون في حالة خسارةٍ حين يضطرب وعيه ويتنازل عن مبادئه التي تحفظ له توازنه الإنساني والروحي.
غير أن الله سبحانه وتعالى استثنى فئةً مؤمنةً صادقة، فقال: “إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”، أربع مراحل جمعت في آية واحدة والتي تعتبر كفيلة بأن تُمكّن الإنسان من الخروج منتصرًا من معاركه في خوض التجارب العصيبة.
تبدأ بـ الإيمان كمنطلقٍ رصينٍ وصفةٍ علاجيةٍ تمكّنه من رؤية الخير في التجربة والنور في العتمة، فيؤمن بأن هناك خلاصًا مؤكدًا ونصرًا من رب العالمين.
ثم العمل الصالح الذي يجعله ثابتًا لا يسمح بانهيار قيمه ومبادئه، بل يجتهد ليكون على قدر إنسانيته، فيحترم ذاته وقيمته كإنسان، ولا يكون ضحية انفعالاته، ويترفع عن كل سلوك ينم عن التهور والغوغائية.
بعدها التواصي بالحق، والبداية هنا في تعامله مع ذاته أولاً حيث يسعى لأن يتمسك بالقيم التي يؤمن بأنها منبع الصلاح والاستقامة، فيُزكّي نفسه من شوائب الأخلاق وفساد السلوك، ولا يقف المؤمن عند حدود ذاته، بل يتعداها إلى مناصرة من حوله وفي المجتمع بأن يبني روابط متينة تسهم في قيام علاقات رصينة متماسكة تحصّن البناء الإنساني من الانهيار ، فيُرسّخ قاعدةً من العلاقات المتينة الخالية من المصالح الشخصية، الصادقة في جوهرها، المستندة إلى صفاء النية وسلامة القلب، والمنتصرة لقيم الإحسان والعدل والدعم بالعلم والنصح الرشيد. فالحق هنا يتجلّى في تعامل الإنسان مع ذاته أولًا، ثم مع الآخرين، سواء في الأسرة أو العمل أو المجتمع..
ثم يأتي التواصي بالصبر ختامًا للمراحل الأربع، وتأكيدًا على اكتمال الرحلة الإيمانية، كفضيلةٍ تمنح النفس قوةً وصمودًا أمام التيارات التي قد تجرف الإنسان إلى القاع إن تخلّى عن هذه المنهجية الحياتية، فيحافظ على شعلة الطموح متقدةً، ويملأ روحه صبرًا وأملًا بوجود مخرجٍ لكل أزمة، ثم يبث هذا الأمل في الآخرين فيكون دعمه لهم نبض حياةٍ يوقظ فيهم التفاؤل، لتتكوّن بذلك قوةٌ مجتمعية متماسكة تنهض بالإنسان ليواصل المسير بثباتٍ نحو تحقيق آماله.
وهكذا تبقى سورة العصر، على قصرها، منهجًا حياتيًا ودستورًا روحيًا لبناء النفس في مواجهة المصاعب والمحن، لتؤكد أن الربح الحقيقي هو في اتساق الإنسان مع قوة إيمانه وقيمه، ووعيه، واتزانه.

 

ديناميكية التغيير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى