الطريق الذي يعبرنا


بقلم : عبير بن صديق
كأن الإنسان حين صنع السيارة، لم يكن يبحث فقط عن وسيلة للانتقال، بل كان، من حيث لا يدري، يصوغ مرآة لحياته كلها. رسم خطوط الطريق، ووضع إشارات المرور، وحدد السرعات، لكنّه لم يدرك أن ما كان يبنيه ليُيسّر به مساره في الأرض، إنما كان ينحت به رموزًا لمسار وجوده.
نحن، مثل السيارات، نسير في طرقات الحياة، بعضنا ينعطف فجأة إلى اليسار، يتركنا دون وداع، وآخرون إلى اليمين، يختفون من مرآتنا الخلفية بلا صوت. بعض العلاقات تصطدم بنا، مؤلمة، دامية، تترك فينا آثارًا لا يمحوها الزمن، أو تصيبنا بعطب يجعلنا نعيد التفكير في كل الطريق الذي عبرناه، وفي كل من رافقنا.
وأحيانًا، تخرجنا تلك الحوادث من مركباتنا القديمة، لنجد أنفسنا في سيارة جديدة، برفقة جديدة، بطريق مختلف، أو قد نفقد المركبة ولا يُعطى لنا بديل، فنكمل المسير مترجلين، متعبين، أكثر وعيًا وربما أكثر وجعًا.
لكل إنسان سرعة تخصه، يسرع حين يستبدّ به الحنين أو الطموح، ويبطئ حين يثقله الحذر أو الخوف. يظن أنه يقود، لكن الحقيقة أن ما صنعه يقوده ليعلمه، ليعكس له فوضاه الداخلية.
العجيب أننا نحن من صنعنا هذه الأدوات، ونحسبها لنا خادمة، فإذا بها تصير لنا معلّمة. نبتكر الآلات ونودّع فيها أفكارًا عن التحكم والدقة، فإذا بها تُظهر لنا كم نحن فوضويون وعشوائيون، نضل الطريق، ننسى الاتجاه، نكسر القواعد التي وضعناها نحن أنفسنا.
لكن، وحده الوعي، ذاك الحضور العميق، من ينقذنا. من يدرك أن السير ليس مجرد انتقال، بل تجربة وجودية. من يرى أن العبرة ليست في الوصول، بل في الانتباه لما يجري أثناء الرحلة.
التعلّم، في جوهره، ليس تراكم معرفة، بل انكشاف. هو أن نستطيع أن نرى أنفسنا في ما صنعناه، ونفهم ما تعكسه لنا الطرق، والمرايا، والانحناءات، وكل من مرّ بنا ومضى.
حين نستحضر هذه الديناميكية في علاقاتنا، في سلوكنا، في عاداتنا، نبدأ نُتقن القيادة – لا قيادة السيارة فحسب، بل قيادة الذات وسط زحام الحياة.