القيادة تبدأ من الداخل


بقلم : حنان سالم باناصر
أحيانًا ننسى أن القيادة لا تبدأ من الخارج، من منصبٍ أو لقبٍ أو مسؤولية. القيادة الحقيقية تبدأ من الداخل، من تلك المساحة العميقة في داخلنا التي لا يراها أحد سوانا. من لحظة الصدق مع الذات، حين نسأل أنفسنا: من أنا فعلًا؟ ما الذي يُحرّكني؟ ما الذي أؤمن به حقًا؟ القيادة ليست أن تقود الآخرين، بل أن تتعلم أولًا كيف تقود نفسك.
القائد الذي لم يعرف ذاته يضيع مع أول أزمة، أما الذي يفهم نفسه جيدًا فيبقى ثابتًا حتى وسط العواصف، لأن بوصلته في داخله لا في يد أحد. القيادة من الداخل تبدأ بالوعي الذاتي: أن تعرف نقاط قوتك وتبني عليها، وأن تواجه نقاط ضعفك بشجاعة بدل أن تُخفيها. أن تكون صادقًا مع نفسك قبل أن تطلب من غيرك الصدق.
القيادة ليست عن الصوت الأعلى، بل عن القلب الأهدأ. في الأزمات، لا يحتاج الناس لمن يصرخ أو يأمر، بل لمن يملك وعيًا واتزانًا. القائد الحقيقي هو الذي يتعامل مع مشاعره بوعي، لا يترك الغضب يقوده، ولا يتخذ قراراته تحت تأثير الانفعال. من يملك نفسه، يملك الموقف كله.
القوة الحقيقية لا تأتي من السيطرة، بل من التوازن، من أن تعرف قيمك وتتمسك بها مهما تغيّرت الظروف. القائد القوي من الداخل لا ينتظر تصفيق الناس ليشعر بقيمته، ولا يسمح لانتقادٍ أن يهزّه، لأنه يعرف نفسه ويثق في طريقه. كل قائدٍ قوي اليوم، مرّ بمرحلة ضعفٍ بالأمس، لكنه اختار أن يعمل على نفسه حتى اشتدّ من الداخل.
وهناك جانب أعمق في القيادة من الداخل، قد لا يُذكر كثيرًا، لكنه يُغيّر كل شيء: النية. فحين تكون نيتك صافية، تنبع من الرغبة في الخير لا من حب السيطرة، يتغيّر كل ما تفعله. النية الصادقة تُنعكس في القرارات، في التعامل، في الحضور. القيادة الحقيقية ليست أن تَظهر بمظهر القائد، بل أن تنوي أن تكون سببًا في إلهام وتطوير من حولك. النية النقية تجعل القائد متصلًا بذاته، ثابتًا في قيمه، ومحبوبًا دون سعيٍ أو تكلّف.
القيادة أيضًا أن تكون منسجمًا مع نفسك، أن تقول ما تؤمن به وتفعل ما تقول، أن تكون قيمك حاضرة في قراراتك وسلوكك اليومي. الناس لا تتبع الكلام الجميل، بل تتبع الصدق. القائد الذي يعيش قيمه لا يحتاج إلى كثيرٍ من الشرح، فحضوره وحده كافٍ للإلهام.
القيادة رحلة لا تنتهي. كل يومٍ نكتشف في أنفسنا شيئًا جديدًا، ونتعلم درسًا يضيف إلى وعينا عمقًا آخر. لا تبحث عن القيادة في الخارج، ابدأها من الداخل. افهم نفسك، قوِّها، نظّم مشاعرك، وصحّح اتجاهك. عندما تهدأ من الداخل، يتغيّر كل شيء من حولك. القيادة الحقيقية لا تُمنح، بل تُصنع، وحين تصنعها في داخلك، سيعرف الآخرون أنك قائد دون أن تقول كلمة واحدة.