مقالات

قلق الخطى وسؤال الوجود مقاربة فلسفية في عوالم حسن البطران السردية

د. آمال بوحرب – تونس

د. آمال بوحرب – تونس

تُعد القصة القصيرة واحدة من أبرز الأجناس الأدبية الحديثة التي استطاعت التعبير عن صراعات الإنسان المعاصر، وتعكس من خلال لغتها المختصرة والمكثفة قضايا الوجود والذات والآخر.

تكتسب القصة القصيرة أهميتها من قدرتها على تحقيق لحظة فنية مركزة وشديدة الدلالة، ما يجعلها نوعاً سردياً يلتقط الوميض ويحول اللحظة العابرة إلى حدث دلالي قائم بذاته كما تمثّل القصة فضاءً للتجريب والتجديد في اللغة والأسلوب، حيث تتحول الأحداث اليومية والأشخاص العاديون إلى علامات سيميائية تحمل العديد من الطبقات المعنوية الممهدة لتعدد القراءات والتأويلات.


‎خلال هذا الزخم الكتابي الواسع الذي يشهده فن القصة القصيرة في المشهد الأدبي المعاصر، تبرز مجموعة حسن البطران “أمشي وبجواري تمشي سلمى” كموضوع بحثي يجذب الانتباه للدراسة والنقد لما تحمله من خصائص فنية ولغوية ورمزية متميزة. تلتقط المجموعة اللحظات العابرة والأحداث الصغيرة بأسلوب مكثف وحضور لغوي عميق، ما يجعلها نقطة التقاء بين الإبداع الفني والتأمل الفلسفي، حيث تعكس تجربة الحاضر وتطرح تساؤلات وجودية ونفسية حادة عبر ثيمات متجددة تلامس تجربة الإنسان المعاصر وتعقيداته بهذا، فإن دراستها تستحق تتبّعاً متأنياً يأخذ بعين الاعتبار أبعادها السردية، البلاغية، الثقافية، والتأويلية التي تميزها بشكل واضح في فضاء القصة القصيرة .

 

‎تحليل عنوان المجموعة والغلاف
‎يكتنز عنوان المجموعة “أمشي وبجواري تمشي سلمى” دلالات سيميائية غنية، فهو يشي بحركة مزدوجة متوازية تعبّر عن علاقة تداخلية بين الذات والآخر، بين المتحرك والمحاور. العنوان يعكس تأويلات فلسفية عميقة عن السير في الحياة، حيث تمثل “سلمى” رمزاً للمرأة، وللرفيقة، وللذات الأخرى التي تتشارك المسار، مما يطرح فكرة التماهي والتعاضد في رحلة الوجود. هذا التلاحم في المشي يرمز إلى الحاجة للانتماء والدعم في مواجهات الوحدة والاغتراب.

‎أما الغلاف، فمن تصميم الفنانة التشكيلية السعودية تهاني طلال، فهو يفتح الأفق البصري نحو تجربة بصرية تتماهى مع الطابع الحلمي والتأملي للنصوص. استخدام الغلاف للألوان وأسلوب التشكيل الانسيابي يعبر عن الانسيابية والحركة الدائمة التي يؤكد عليها عنوان المجموعة

. الغلاف عنصر فني يكمل النصوص، فهو يدخل القارئ نفس الحالة الذهنية التي يهيئها النص، ويدعوه للتحليق في فضاء التأمل والتجربة الوجودية، ما يجعله جزءاً لا يتجزأ من تجربة القراءة والاستقبال الفني ككل ولعل هذا التمازج بين العنوان والغلاف يعكس رؤية شاملة و للمُنتج الأدبي، حيث يكرّس للعمل كياناً فنياً متكاملاً يحمل في طياته محطات تأملية، ويعرض الرموز التي تعبّر عن التجربة الكونية والإنسانية التي يطرحها البطران في مجموعته..
‏‎القراءة الفنية والسيميائية

‏‎تتسم مجموعة “أمشي وبجواري تمشي سلمى” لحسن علي البطران بطاقة سردية عالية تشتغل على لحظات العبور والانتظار عبر بنية مختزلة توفّر باقة من الرموز ذات الدلالات الإنسانية الوجودية. تتحرك النصوص ضمن فضاء مكثف يرحل فيه النص والعنوان نحو رمزية المشي والحركة التي تحيل إلى معاني العبور، الرحلة، الفلسفة، والمصير.

‏‎الرموز المتكررة مثل النوارس، البلابل، البحر، المرأة، والطفولة تُستحضَر كعلامات تحمل دلالات متعددة إزاء الحرية، الحنين، الوحدة، والبحث عن الأمان. تتحول هذه الصور السردية من مجرد حدث أو مشهد إلى علامات تنفتح عبرها قابلية التأويل، كما في قصة “دمعة نوارس” التي تتداخل فيها رموز الطير والبحر لتعبير عن الحرية والحنين لأمان الطفولة. تتكرر شخصية “سلمى” كعلامة كونية للمرأة، لتجسد التوازن، النقاء، والجمال في البنية السردية.
‏‎يعمل النص على التوتر بين الحياة والموت، الحضور والغياب، الدفء المسموح والمحرّم، ما يمنح القصص شحنة وجدانية وتأملية عالية تفوق الظاهر السردي.
‏‎البعد الوجودي والبعد النفسي

‏‎البعد الوجودي:
‏‎تتجلى فلسفة الحركة والمشي كثيمة مركزية تعبيرية عن قلق الإنسان ووجوده في هذا العالم. المشي عند البطران ليس حركة جسدية فحسب، بل رحلة داخل الزمن والذات، بحث دائم عن معنى وسط عبثية الحياة التي تستدعي مواجهة مكثفة مع الوحدة واللامعنى. تأتي هذه الرحلة بحثًا عن ذات أصيلة وسط “الهاوية” المؤقة، ويعكس النص حالة القلق الوجودي التي تتماهى مع مفاهيم سارتر في حرية الاختيار وتحميل الذات عبء وجودها، ومع هايدغر في وعي الإنسان بالزمن والموت كحدود وجودية.
‏‎تستدعي الرمزية الوجودية في النصوص معرفة الاغتراب وعدم الاستقرار، وهروب الذات المستمر من عدم الانتماء، وهي رؤية تحاكي الأسئلة الفلسفية الكبرى عن الهوية والمصير.

‏‎البعد النفسي:
‏‎ينسجم البعد النفسي مع الوجودي في تأملات عميقة للذات ومكابراتها، حيث تغوص النصوص في أعماق إحساس الشخصيات، بصورة تأملية في المشاعر المتباينة من خوف، حنان، فقد، ورغبة في الطمأنينة. توظف النصوص صورًا نفسية مكثفة مثل “الثعبان الرحيم” في “دفء غير مشروع” الذي يمثل حناناً متناقضاً وحماية غير متوقعة، ما يعبر عن اضطرابات الهوية العاطفية واضطرار الذات لتقبّل الواقع حتى وإن كان مؤذيًا. تصف القصص كيف تنقسم الشخصية بين انكشافها لرغبتها بالاحتضان والانكفاء خلف أقنعة

الخوف والألم.

‏‎كما تظهر النزاعات النفسية في تجارب الحنين المؤلم، المؤشرات اللاواعية للاكتئاب والقلق، والتشظي بين ماضي الشخص وحاضره في حيوات ملتبسة، مما يؤكد مقاربة فرويد حول تأثير الطفولة في تشكيل اللاوعي والقلق النفسي.

‏‎مقاربات فلسفية :

‏‎تتفاعل نصوص “أمشي وبجواري تمشي سلمى” مع حقول فلسفية عميقة تضيء التجربة الوجودية والنفسية بكثافة رمزية وتوجيهات فلسفية.

‏‎في فلسفة جان بول سارتر، يبرز الإنسان ككائن حرّ “محكوم عليه بالحرية”، إذ يجد نفسه أمام عالم بلا معنى مسبق، يحمل المسؤولية الكاملة عن بناء ذاته واختيار مسارات وجوده. يعكس رمز “المشي” في المجموعة هذا الوعي الحر والحذر في التفاعل مع الزمن والاختيار، حيث يتحول الحديث عن المشي إلى تجسيد لصراع الذات بين إرادتها في تحقق معنى وجودها وبين العزلة والاغتراب. يمثل المشي هنا فعل الوعي المتعمق، وانغماس الذات الحارسة لحقها في الوجود وسط عبث الحياة.

‏‎أما في فلسفة مارتن هايدغر، يتبدى الوجود المستثنى عبر القرب من الموت، حيث يكون الإنسان “موجودًا نحو الموت”. وعي الذات بهذه النهاية المطلقة يجعل لحظة المشي مشحونة بألم العزلة والفراغ، وتحولها إلى فعل توثيق صارم وموثق لوجود الإنسان الأصيل، وتاريخ حي لرحلته مع الزمن والغياب. تعكس النصوص هذا الحضور العميق في عيش الأصيل الذي يمر عبر التجربة الكاملة، بردود فعل الإنسان على ألمه، خوفه، وترقبه الدائم، فجسد النص مجالاً لاختبار الزمن كآفاق وجودية مؤلمة.

‏‎في الحقل النفسي، تقدم مجموعة البطران نموذجًا يستند إلى رؤى سيغموند فرويد في فهم اللاوعي وتداخل الذكريات الطفولية والمكبوتات التي تؤثر بشكل حاسم في تشكيل الهوية الذهنية والعاطفية. تكشف الرموز النفسية مثل الثعبان، العش المهجور، وحنين الطفولة عن صراعات الهوية وتداخل الخوف والرغبة والاحتضان، حيث تتجلى النزاعات مع الذات في تقلبات المزاج، والخوف من الانكشاف، والرغبة في التسلل خلف أقنعة الادعاء، ما يفتح باب القراءة النفسية لتفسير أعمق للشكليات النصية وتقطيعات السرد.

‏‎بالتالي ينفتح النص السردي على أبعاد متعددة تمزج بين التجربة الفلسفية والنفسية ليطرح حوارا تأويلياً مكثفاً، يتناوب بين سؤال الوجود وعرائض النفس، ليبرز المصير الإنساني بين بحث الذات عن ذاتها والتصالح مع مخاوفها العميقة.

‏‎البعد البلاغي واللغوي

‏‎يتميز نص البطران بأسلوب لغوي مكثف يستخدم الاستعارة، التشبيه، والتكرار بشكل إبداعي، حيث تتعدد الدلالات ويزداد الإثراء الدلالي. تعزز هذه التقنيات التجربة الجمالية للتلقي، وتضفي طبقات معقدة على النص، فالتكرار في الصور والكلمات، مثل استخدام رموز “الثعبان”، “النوارس”، و”الورد”، يجعلها مركبات دلالية خالدة بنبضات متعددة المعاني.

‏‎تقنيات السرد والصياغة

‏‎تُوظف النصوص تقنيات سردية عدة، كالتشظي، التداخل الزمني، والسرد الداخلي الذي يمنح النصوص عمقاً نفسياً وشعوراً بالتوتر الوجودي. كما ينفذ البطران إلى داخل الشخصيات ويزيح الستار عن أعماق وجدانياتها، فيتفادى السرد التجاري ويشتغل على خطابات الوجود الذاتي التي تتقاطع مع لغة الطفولة والذاكرة.

‏‎الطابع الثقافي والاجتماعي

‏‎تسترشد القصص برمزيات متجذرة في التراث العربي، وتوظفها في قراءة عصرية تسمح بالنقد والتأمل في التحولات الاجتماعية والثقافية الراهنة، ما يجعل المجموعة مثالاً للتلاقح بين التراث والحداثة، والخصوصي والعام.

‏‎دلالات الزمن والفضاء

‏‎في المجموعة، الزمن لا يمثل إطاراً ثابتاً، بل تجربة ذاتية متداخلة، ملفوفة بالذاكرة الحية التي تولد شحنات وجدانية مركزة. الفضاء المتجلّي في النصوص كفضاءات داخلية وخارجية هو موضع استدعاء دائم للذاكرة والذات، مضاعفاً بذلك أبعاد العزلة واللقاء.

‏‎خاتمة

‏‎تقدم مجموعة حسن البطران نموذجاً سردياً معاصراً يمزج بين التعبير الفني المركّز والاستثمار العميق للعلامات السيميائية، محققة بذلك توازناً بارعاً بين التعبير عن الوجود الإنساني وتجلياته النفسية. تتنقل النصوص بين مستويات التأمل الفلسفي والتجربة الشعورية، فتكرّس “المشي” رمزاً للتحول، الرحيل، والبحث اللامتناهي عن الذات ضمن عالم مشحون بالأسئلة الوجودية والذاتية العميقة. وتظل المجموعة مفتوحة لتفسيرات متعددة، تعبر عن حيوية النص القصصي وأهميته في إبداع قراءة معاصرة تتفاعل مع الوجود والروح واللغة.

جميلة بلطي عطوي: بين حروف الأدب وأفق الوعي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى