مقالات

الرزق… معنى يتجاوز المال

بقلم: أ. حنان سالم باناصر

بقلم: أ. حنان سالم باناصر

حين تُذكر كلمة الرزق، تتجه أنظار الكثيرين نحو المال أولًا، وكأن الرزق لا يُقاس إلا بما يُمسك باليد أو يُودع في الحساب البنكي، غير أن في عمق هذه الكلمة معنى أوسع وأعظم. فالرزق ليس رقمًا يُكتب في كشف الحساب، بل دفء في القلب، وبركة في الوقت، وطمأنينة تملأ الروح حين تضيق الأسباب وتبقى السماء مفتوحة بالدعاء.

إن الرزق في جوهره منظومة من النِّعم التي يمنّ الله بها على عباده، ظاهرة كانت أو خفية، مادية كانت أو معنوية، فهو القوة حين يضعف الجسد، وهو الطمأنينة حين يضطرب العالم، وهو الأمل حين يشتد البلاء. قال تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: 22]، وقال سبحانه: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ [الرعد: 26]، ليؤكد لنا أن الرزق بيده وحده، يقدّره بعلمه، ويقسمه بحكمته، ويوزّعه بلطف وعدل على عباده. فكم من إنسانٍ وُسّع له في المال وضاق عليه صدره، وكم من آخر ضاق رزقه المالي واتّسع قلبه طمأنينة وسعادة، لأن الرزق ليس مقدار ما نحصل عليه، بل مقدار ما نسعد به ونشكر الله عليه.

أن تستيقظ معافى في بدنك فذلك رزق، وأن تجد من يُحبك بصدق فذلك رزق، وأن ترى أبناءك أصحاء سعداء فذلك رزق، وأن تمتلك بيتًا يضمك بطمأنينة فهو رزق، وأن تجد عملًا تحبه وتبدع فيه فذلك رزق أيضًا. قال رسول الله ﷺ: «من أصبح منكم آمناً في سِربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا» — رواه الترمذي. ما أعمق هذا الحديث الذي لخص معنى الرزق الحقيقي في ثلاث نِعَم: الأمن، والصحة، والقوت. إنها مقاييس السعادة التي لا تُقاس بالأرصدة بل بمدى ما نحياه من رضا وامتنان. والزوجة الصالحة رزق كذلك، قال النبي ﷺ: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» — رواه مسلم، فهي سكن ومودة ورحمة، وشريك في دروب الحياة. وكذلك الصديق المخلص رزق نادر يشاركك الأعباء ويُخفف وطأة الأيام، والوقت المبارك رزق، والفكرة الملهمة رزق، والبركة التي تحوّل القليل إلى كثير رزق عظيم.

قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96]، فالبركة هي السرّ الخفي في الأرزاق، وهي ما يجعل القليل يغني، وما يهب الساعي في الحياة طمأنينة ووفرة بلا حساب. ولأن الرزق أمانة ومسؤولية، قال رسول الله ﷺ: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه» — رواه الترمذي. فالرزق ليس اختبارًا في الكمّ بل في الكيف، ليس في ما تأخذه، بل في ما تعطيه، وكيف تسخّره في الخير، وتغدو به نافعًا لمن حولك.

الرزق في جوهره دعوة لأن نعيد تعريف الغنى، فالغنى الحقيقي ليس في وفرة المال بل في قناعة النفس، والفقير ليس من قلّ ماله، بل من غابت عن عينه نعم الله الحاضرة. الرزق مزيج من توكل وسعي وإيمانٍ عميق بأن الله يقدّر الأرزاق بميزانٍ من الحكمة والرحمة، وأن كل ما يأتي من الله خير، وكل ما يؤخره الله لطف. فالرزق ليس دائمًا ورقة نقدية ولا حسابًا متضخمًا، بل هو أن تُشرق عليك شمس يومٍ جديد وأنت بخير، وأن تجد في قلبك سكينة، وفي بيتك دفئًا، وفي نفسك يقينًا أن ما كُتب لك لن يفوتك. إن أعظم أنواع الرزق أن يرزقك الله البصيرة لتدرك قيمة ما بين يديك قبل أن تفقده، وأن تعيش لحظتك بحمد وشكر ورضا. فحتى قراءتك لهذه الكلمات الآن… رزق.

 

 

يوم المعلم… رسالة حياة ومكانة سامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى