

د. سوسن توفيق حنفي
في الطوارئ، نُشاهد الموت بأشكاله المتعددة: يأتي أحيانًا ببطءٍ متسامح، كشيخٍ يخطو على أطراف الوداع بعد مرضٍ طويل، وأحيانًا يقتحم المكان كصاعقةٍ تُسقط جسدًا كان قبل لحظاتٍ حيًّا ينبض بالحياة.
بين هذين المشهدين، يبقى السؤال الإنساني العميق: أيّهما أهون؟ أن نتهيأ للفقد ونتدرّب عليه ببطء، أم أن يُباغتنا الموت بلا إنذار؟
من الزاوية الطبية، يختلف الموتان اختلافًا واسعًا في أسبابهما ومسارهما. الموت الطبيعي هو استسلام الجسد لقوانين الطبيعة: شيخوخة الأعضاء، تراجع الخلايا، ضعف القلب، وهدوء النفس حين تبلغ حدّها. هو نهاية تدريجية يتنبّه إليها الطبيب كما تتنبّه الشجرة لخريفها.
أما الموت المفاجئ فهو خيانة مفاجئة للجسد: قلبٌ يتوقف بلا مقدمات، جلطةٌ تهاجم صخب الحياة، نبضةٌ تُخطئ الطريق فيغيب الإنسان في لحظة، أو حادثُ سيرٍ لشابٍّ في طريقه لأهله بعد طول سفرٍ واشتياق.
لكن ما لا تُفسّره الأجهزة الطبية هو الصدى الفلسفي لكل نوعٍ من الرحيل.
الموت البطيء يُتيح للروح أن تتهيأ، وللأحبة أن يودّعوا (رغم عدم الاكتفاء)، وللألم أن يتخفف بالاعتياد. فيه مساحة للتسامح، ولملمة ما تفرّق من الحكايات.
أما الموت المفاجئ، فهو صدمة الزمن، صدعٌ قاسٍ ومفاجئ في أرض الحياة، صفعةٌ توقظنا على هشاشتنا جميعًا.
من منظورٍ فلسفي، الموت المفاجئ هو الحقيقة العارية التي لا تمنحنا وقتًا لنخدع أنفسنا، بينما الموت البطيء يمنحنا نعمة الوعي بالرحيل، لكنه يعرّينا أمام الضعف والعجز والانتظار الطويل.
وفي الحالتين، نحن أمام ذات الحقيقة: أن الحياة مؤقتة، وأن الرحيل ليس غريبًا، بل جزءٌ من طبيعتها.
كطبيبة طوارئ، رأيتُ كيف تخلط الأسر بين الحزن والدهشة، فالموت بعد مرضٍ طويل يبدو “منطقيًا”، ومع ذلك يبكيه الجميع وكأنهم لم يكونوا يعلمون أنه قادم، والموت المفاجئ يصدمهم كقدرٍ لا يُصدّق، وكأنهم نسوا أن كل نفسٍ تحمل في طيّاتها حتمية الوداع.
ومع ذلك، لا فرق كبير في النهاية إلا في طريقتنا نحن في التلقي.
الموت الطبيعي يُذكّرنا بضرورة الصبر، والموت المفاجئ يُذكّرنا بضرورة الاستعداد.
الأول يُعلّمنا الرضا، والثاني يُنبّهنا ألّا نؤجّل الحياة، ولا الكلمات التي تُقال، ولا الغفران الذي ينتظر.
قال أبو العلاء المعرّي:
تعبٌ كلها الحياةُ فما أعجبُ
إلّا من راغبٍ في ازديادِ
فما دامت النهاية واحدة، فلماذا نعيش وكأننا مخلّدون؟
لماذا لا نُعامل من نحب كما لو أن الموت يراقبنا على بُعد نبضة؟
في الطوارئ، أتعلم كل يومٍ أن الموت لا يُفاجئ من كان مستعدًا للحياة.
فالاستعداد للموت لا يعني انتظار النهاية، بل يعني أن نحيا بوعي، أن نتصالح مع هشاشتنا، وأن نترك خلفنا أثرًا طيبًا لا تمحوه الصدمات.
في كل يومٍ من أيامي في الطوارئ، أرى الموت يمرّ بأشكالٍ شتّى، لكني أراه في النهاية معلّمًا للحياة لا عدوًّا لها.
علّمني أن أقدّر اللحظات الصغيرة، أن أقول الكلمة الطيبة في وقتها، وألّا أؤجّل العناق ولا الاعتذار.
فالموت، سواء جاء على مهلٍ أو بغتة، لا يسرقنا إلا إذا عشنا غافلين عن الحياة الدنيا وعن حياتنا الأخرى بعد الموت.