الساعة الأخيرة


بقلم :د. آمال بوحرب
اليوم كائنٌ عجيبٌ بلا زرقة، بلا قلب. المدنُ ترتجفُ في صمتها، والأفقُ يتهدّلُ مثلَ ستارةٍ مثقوبةٍ بالعدم. شعرتُ أنّ العالمَ يتهيّأ لابتلاع أنفاسه الأخيرة، وأنني الناجيةُ الوحيدةُ من صرخةٍ كونيةٍ معلّقةٍ بين الحياة والفناء. في غفلةٍ من الوقت جاءني غريبٌ بملامحَ لم أرَ مثلها يومًا، حدّق بي وسلّمني الوصية: ساعةٌ واحدةٌ فقط ثم ترحلين إلى الغيب.
ساعةٌ واحدةٌ ومعها انبجست شهوةُ الكتابة في دمي، كما لو أن جسدي آخرُ قصيدةٍ في الوجود. كلُّ الترتيباتِ الصغيرةِ تهاوت: المطبخ، الفستان، الأوراق، القراءة؛ كلُّها صارت هباءً في عين الريح. وبقي لي طريقٌ واحد: أن أكتبك، أن أُشعلَ اسمَك في الورق كشَمعةٍ تضيء هاويتي.
سأكتبك مدينةً من نارٍ وماء. أكتبك كأنك الفردوسُ المفقودُ في خرائط الروح، أكتبك كما ينحتُ الضوءُ ظلالَه، وكما يولد العشقُ من فجوةٍ بين جرحين. كنتُ أحلم أن أكتبك بلا قيود، أن أترك لغتي تستسلم لخمرك، أن أجعل كلَّ مساءِ عودتك طقوسًا لولادةٍ جديدة. لكنك لم تعد، وبقيتُ أزرعُ وردًا في صحراء وأسقيه من دموع الغياب.
في هذه الساعة الأخيرة يتكشّف لي سرُّ العمر: أن كلَّ شيءٍ كان توطئةً للحظةٍ واحدةٍ هي أنت، كلُّ القصائدِ التي كتبتُها كانت ظلالَك، كلُّ الكتبِ التي قرأتُها كانت تسعى إليك، كلُّ المدنِ التي مررتُ بها كانت مرايا تبحثُ عنك. سأكتبك نشيدًا سرّيًا، وسأغزلك بحروفٍ تتجاوز حدودَ اللهب. سأترك اسمك يتّسع في جسدي كما تتّسع المجرات، وأترك قلبي ينفجر في قصيدتي كنيزك. سأكتب حتى يصير الغيابُ طريقًا للحضور، وحتى يصير الحبُّ صلاةً بلا كاهن.
ساعةٌ أخيرة، ربما ينكشفُ فيها المستور، ربما تتعرّى في عتمتها الحقيقةُ التي طالما خبّأتها الأيامُ عن عيني. إن لحظةً كهذه امتحانٌ بين حدّين: الفناءِ والخلود.
وربما ينكشفُ أن كلَّ ما سعيتُ إليه لم يكن إلا مرايا مضلّلة، وأن الأصلَ لم يكن إلا أنت؛ أنت الذي غاب في الغياب وحضر في كلِّ أثر. وربما ينكشفُ أن الغربةَ لم تكن سوى طريقٍ إلى العشق، وأن العشقَ لم يكن سوى مرآةٍ نرى فيها وجهَنا الأخير.
ساعةٌ أخيرة، وربما تنكشفُ أبوابٌ لم أجرؤ أن أطرقها يومًا؛ أبوابٌ في داخلي، في قلبي، في حفرةِ الجرحِ التي كنتُ أظنّها موتًا فإذا بها بذرةُ حياة. ساعةٌ أخيرة تعلّمني أن الانتظارَ لم يكن عبثًا، وأن الوصايا الكبرى تولد في دقائقَ صغيرةٍ كهذه. ربما ينكشف أن الرحيلَ بدايةُ عبورٍ آخر إلى مدينةٍ لا تُرسَم بالخرائط ولا تُحصيها ذاكرةُ الأرض؛ مدينةٍ اسمُها العشق وملامحُها أنت.
وفي هذا الفراغ الأخير، حيث يضيق الوقت وتتّسع الكتابة، أدرك أن ما تبقّى لي من الدقائق ومن الأنفاس ومن النبض هو مساحةٌ لرسالةٍ أخرى، رسالةِ اعتذارٍ صافيةٍ لمن يهمّه الأمر، أكتبُها بمداد القلب قبل أن يذوب في الغياب، رسالةٍ تليق بالوداع وتليق بالبوح، أضع فيها كلَّ ما لم يُقَل وكلَّ ما تعثّر على شفتي في الطريق.
أوصيك بي خيرًا.