القلق الوجودي والهوية في نصوص سمير محمد عالم”


د.آمال بوحرب _ تونس
في عمق التجربة الإنسانية يظهر شعور يعرف في الفلسفة باسم “القلق الوجودي” وهو حالة تتجاوز مجرد الشعور بالاضطراب أو الخوف لتلامس جوهر الكينونة والحرية والمسؤولية، ركز الفيلسوف سورين كيركغارد على هذا القلق بِعَدِّه “دوار الحرية” حيث يدرك الإنسان أمام طيف لا نهائي من الاحتمالات ،ويدخل في مواجهة مع خيارات حاسمة تفوق حدود معرفته .هذا القلق ليس عبئًا سلبيًا فحسب،بل هو دافع لا غنى عنه للبحث عن المعنى الحقيقي للحياة ،وهو نقطة التقاء بين الإرادة الحرة والعبء الأخلاقي الذي يفرضه الوجود،يبرز القلق كآلية تنقل الإنسان من حالة الغفلة إلى وعي دقيق بذاته ،حيث يبدأ في مواجهة حقيقته المطلقة وعلاقته بالكون.
في كتابه “آدم” يستدعي سمير محمد عالم هذا القلق الوجودي فتصبح النصوص نبراسًا لصراع الوعي مع الذات والعالم بين الوحدة والاغتراب ،بين التمزق والبحث عن السلام ،تتجسد هذه الحالة في مشهد الذات كـ “نخلة في صحراء” شامخة رغم التيه والفراغ تحارب من أجل البقاء في عالم قاس وغريب ،كما يقول الشاعر
“أنتصب كنخلة في صحراء … شامخًا لأبقى مقاتلًا أربعين تيهًا”
يرتحل النص عبر محطات من الاغتراب الداخلي المعطى بصور مثل “خلف شعور بالاغتراب… فرضت أبدية التغيير حتمية المكان” حيث تتلاشى معالم الانتماء وتتبدد الثوابت ويصبح الإنسان حيًّا في ميدان تساؤل دائم،
ويأتي الإهداء للأم ؛ليؤكد أهمية الروابط الإنسانية كمراهنة على استرداد الذات واستعادة التوازن ،ليكون الحب والصبر والعطاء قيمًا أساسية تشكل حصن الإنسان في وجه القلق والضياع حيث يؤكد النص
“إليك يا أمي أهديك حروفي فهي منك وصبرك وحبك وعطاؤك”
فنيًا يستخدم سمير عالم صورًا متعددة الأبعاد :العطر مجاز للغواية الوجدانية ،القلب رمزي لجراح الزمن ،والنجمة في الليل رمز للرجاء وسط الظلمات ،هذه الصور تولد أجواء متخالفة بين الحسية والرمزية ،تعبر عن تناقضات الوجود الإنساني وتطرح استمرارية الحنين رغم الألم كما يقول
“عطر أنفاسك غواية الوجود… حنين لا ينتهي”
وعلى المستوى الفلسفي تجسد نصوص “آدم” تساؤلات كونية حول الهوية والكينونة أمام تقلبات الوجود وانعدام الثبات ،إعادة التفكير في الخطوات البشرية المتعثرة تثير القلق من فقدان الذات ،بينما تعبير
“الحياة تمنحني فرصة واحدة للعيش وألفًا للدفن في التراب”
يعرض التوتر بين الوجودي المحدود والمسؤولية الأخلاقية الثقيلة التي يتوجب على الإنسان حملها.
تظهر شخصية آدم في النص رمزًا مركزيًا لهذا القلق ،حيث تتلاقى التجربة الشخصية مع البعد الجماعي للإنسانية مجسدة المعركة الوجودية الأزلية بين الحرية والقدر ،بين الخير والشر ،بين الإصغاء لصوت الضمير أو الاستسلام للضياع.
الأدوات البلاغية والرموز
في كتاب “آدم” يتحقق التناغم بين الأدوات البلاغية التي تشكل نواة الأداء الإبداعي للنص ،مما يجعلها وسائط حيوية لنقل التجربة الإنسانية ومكنونة الإحساس الوجودي أول هذه الأدوات هو التشبيه والاستعارة ،حيث يستخدم الشاعر صورة النخلة في الصحراء لتمثيل الذات التي تقف شامخة ومتجذرة رغم الوحدة والفراغ ،كما يتحول العطر إلى استعارة تجسد الغواية الوجدانية والحنين المستمر ما يثري المشهد الشعري برمزية تفوق التعبير الحسي البسيط،
وتتأسس المفارقة والانزياح على سياق ضاغط من حيث قلة فرص الحياة التي يمنحها الوجود مقابل وفرة فرص الموت ،ما يصنع توترًا دراميًا مضاعفًا يدفع القارئ إلى تأمل هشاشة الإنسان في مواجهة قدر لا يرحم ،ويضاف إلى ذلك قوة المونولوج الداخلي الذي يعكس الصراع النفسي المتأجج والاغتراب الذاتي ،حيث يتحول الحوار مع الذات إلى فضاء داخلي يكتنفه التوتر والحيرة ويبرز الكابوس النفسي بصورة فنية نابضة.
أما الرمزية الزمنية الحديثة فتتجسد في القلب الذي يحمل آلام السنين وجراحات التجربة ،وفي النجمة التي تمثل أمل النجاة والضياء وسط عتمة الوجود ،فهما وجهان لعملة واحدة تعكس الكفاح البشري بين الألم والأمل ،وأخيرًا يستدعي النص الأسطورة الكونية لشخصية آدم الذي يتحول من اسم في الأسطورة إلى رمز كلي للإنسانية يعكس الصراع الأزلي بين المصير والحرية بما يحملانه من مسؤوليات وقرارات وجودية
بالتداخل المركب بين هذه الأدوات يصبح النص قدرة على استيعاب تعدد مستويات المعنى ،ويقدم رؤية شمولية للتجربة الإنسانية تحمل مباهج الجمال والتوترات الوجودية في آن معًا.
القلق حالة مبدعة لا مهيمنة
في “آدم” لا ينظر إلى القلق الوجودي كحالة سلبية تغمر الوعي وتصنع عائقًا أمام العيش ،فإنما هو فضاء إنتاجي يتشكل فيه الوعي الذاتي ،بمعنى آخر القلق هنا ليس عبئًا يثقل كاهل الإنسان بل هو مشعل يضيء دروب الفكر والمشاعر ،يدفع إلى إعادة تشكيل الذات في مواجهة لامعنى الحياة الظاهر هذه القراءة تجعل القلق ليس فقط سرابًا للضياع بل مصدرًا للتجدد والخلق النفسي.
يرتقي النص بهذا القلق إلى مرتبة إمكانات الصيرورة ،حيث تعانق الذات الألم والاغتراب لكنها في الوقت نفسه تضفي على وجودها معنى جديدًا عبر التجاوز والتأمل، هذا هو القلق بالمعنى الأنطولوجي ،حالة عدم استقرار من نوع خاص تسمح بانفجار الفهم وتحرر الطاقات الكامنة ،كأن القلق في هذا النص هو “ألوان الحياة المتلاشية” التي لا تُرى إلا بالعين التي تعرف كيف تتشبث بالفراغ.
في هذا السياق يتحول القارئ من مجرد متلقٍ إلى شريك في بناء النص يعيد إنتاج القلق نفسه ؛ليخلق له من خلاله مسارات تأويل جديدة ،ومن هنا يصبح “آدم” ظاهرة شعرية فلسفية متحولة ليس فقط لأن قصيدته تعبر عما هو وجدان بشري محض ؛بل لأنها تشكل تجربة للوعي ذاته في مجاله الأعمق
المقاربات الفلسفية ومقارنة مع نيتشه
يتناول كتاب “آدم” الأسئلة الفلسفية الكبرى المرتبطة بالكينونة الحرية والمسؤولية في خطاب يقترب من جوهر القلق الوجودي كما جاء في فلسفة سورين كيركغارد ومتابعيه ،فالنص يشير إلى الوعي بالفراغ واللايقين حيث يصبح البحث عن المعنى تجربة مجهدة تتطلب مواجهة فردية صادقة مع الذات ،وهو ما يتقاطع مع رؤية الفلسفة الوجودية التي ترى في القلق دافعًا للحرية والتمرد
إذا ما أخذت هذه المقاربات الفلسفية في ضوء فلسفة فريدريك نيتشه نجد تمايزًا مثيرًا ،ففي حين يؤكد النص على تجربة القلق كمعاناة للذات بين الواقع والهوية المتشققة يعمد نيتشه إلى تحويل هذا القلق والخذلان الوجودي إلى مصدر طاقة إبداعية تتغذى على إرادة القوة ،يرى نيتشه أن الإنسان ينبغي أن يمتلك القدرة على تجاوز المعاناة والتمرد على المألوف ؛ليخلق ذاته بنفسه فالقوى الداخلية تتحول من معاناة إلى إرادة حياة ونمو على عكس القلق الوجودي الذي يتجلى في النص بوصفه حالة تأملية مفعمة بالتردد .يرى نيتشه في القلق والتحول فرصة للاعتراف بذات الإنسان الحرة القادرة على صناعة قيمها الخاصة، وتجاوز الموروثات الضاغطة ،لذا فبينما يشدد نص “آدم” على هشاشة الوجود وانكسارات الهوية ،يطرح نيتشه صورة الإنسان الأعلى الذي يتحدى القلق ويعيد تفسير القيم في ضوء إرادته.
هذه المقاربة الثنائية تفتح أمام القارئ فضاءً فلسفيًا غنيًا يستجلي فيه حالة الإنسان الحديثة بين الانكفاء الذاتي والتمرد الواعي ،بين الحيرة والخلق ،وبين العبء والحرية؛ ليؤكد النص مع نيتشه على أهمية إرادة الفعل في صناعة معنى الوجود
تجليات الأنطولوجيا في كتاب “آدم”
يتجلى مبحث الأنطولوجيا في كتاب “آدم” من خلال دراسة متعمقة لطبيعة الوجود الإنساني في حالة الصيرورة والتغير المستمر، يصف الشاعر الذات على أنها “نبضة مستمرة في صحراء الزمن” حيث لا يكون الوجود حالة جامدة أو حالة معطاة بل هو حركة مستمرة بين الألم والرجاء وبين الغياب والظهور، هذه الصيرورة التعبيرية تعكس الفكر الأنطولوجي الحديث الذي يجعل من الغياب والفراغ جزءًا لا يتجزأ من ماهية الوجود ،حيث يصبح الإنسان مدعوًا لفهم وجوده وسط حالة من العدم والمنفى الداخلي
وباستخدام هذه الرؤية يؤسس النص لقراءة وجودية تضع الذات في مسرح متغير ،حيث لا كينونة ثابتة أو مطلقة بل بحث دائم عن الهوية وسط لامعنى العالم يعبر على ذلك بقوله “وجودي يمضي بين الألم والرجاء صيرورة لا تنتهي في فضاء العدم واللامعنى” وهذا يؤكد كيف أن النص لا يقدم هوية محددة بل يعرض تقلباتها وتأرجحها بين حالات نفسية وفلسفية متعددة ،وهو ما يعكس تلك التجربة الأنطولوجية للذات في ميدان الوجود.
في نهاية المطاف يجوز القول بأن كتاب “آدم” يقدم تجربة تستدعي القارئ إلى مواجهة قلقه الوجودي الخاص مع دعوة للتأمل في معنى الحرية والاختيار ومسؤولية الوجود يتجاوز النص مجرد سرد تجارب فردية ليغوص في أزمات الإنسان الكونية في زمن تسوده عبثية الوجود ولا نهائية الاحتمالات،
والسؤال الذي يتركه الكتاب مفتوحًا للتأمل
كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على تماسك هويته وسط هذا القلق الوجودي المتصاعد ؟وهل الحرية التي تولد القلق هي نفسها المهدئة لما يعانيه الإنسان من تمزقات داخلية؟