الاستدامة في السعودية : من الطموح إلى الواقع

بقلم : حنان سالم باناصر
في عالمٍ يزداد ازدحامًا وتحدياته البيئية تتضاعف يومًا بعد يوم، أصبح مفهوم الاستدامة حاجة ملحّة وليست مجرد خيار، فهو السبيل لتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية وحماية الموارد الطبيعية وضمان حقوق الأجيال القادمة. ظهرت الحاجة الملحّة للاستدامة مع تزايد الضغوط على الموارد الطبيعية منذ الثورة الصناعية وما تبعها من استهلاك مفرط وتلوث بيئي، حتى أصبح العالم في ثمانينيات القرن الماضي يضع هذا المفهوم في تقاريره الدولية مثل تقرير برونتلاند عام 1987. قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: 56]، وهي آية تلخص جوهر الاستدامة في الحفاظ على توازن الأرض وعدم الإضرار بها.
في المملكة العربية السعودية، تنامى وعي الشركات والأفراد بالاستدامة مع توجه الدولة لرؤية 2030، حيث أصبحت جزءًا أساسيًا من الاستراتيجيات الوطنية. كثير من الشركات الكبرى مثل أرامكو وسابك تبنّت مبادرات للحد من الانبعاثات، وإعادة التدوير، والاستثمار في الطاقة المتجددة، كما أطلقت الحكومة مبادرات رائدة مثل السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، إضافة إلى مشاريع الاقتصاد الدائري للكربون. وقد أسهمت هذه الجهود في رفع مستوى الوعي البيئي من خلال فعاليات مثل أسبوع البيئة السعودي ومبادرات وزارة البيئة والمياه والزراعة. قال رسول الله ﷺ: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها” [رواه البخاري]، وهو توجيه نبوي عظيم يرسّخ أهمية العمل من أجل الاستدامة حتى في أصعب الظروف.
ورغم هذه الجهود، ما زالت هناك تحديات تواجه الاستدامة مثل ارتفاع التكلفة الأولية للمشاريع البيئية، وضعف التزام بعض الشركات الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى تحديات التغير المناخي العالمي التي تتطلب تعاوناً دولياً واسعاً. كما أن بعض المجتمعات تحتاج إلى رفع مستوى الوعي ليتحول من مجرد معرفة نظرية إلى سلوك يومي عملي، وهو ما يتطلب وقتاً وجهداً كبيرين.
ومن الجوانب المهمة في تعزيز الاستدامة دور الابتكار والتقنية، حيث أسهمت الحلول التكنولوجية الحديثة في تطوير مصادر الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وفي تحسين كفاءة استهلاك المياه والكهرباء عبر أنظمة المدن الذكية. كما ساعدت التقنيات الرقمية مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء في إدارة الموارد بشكل أدق وتخفيف الهدر، مما يجعل الابتكار شريكًا رئيسيًا في تحقيق أهداف الاستدامة.
وقدمت الدولة السعودية دعماً كبيراً لمفهوم الاستدامة عبر التشريعات والسياسات، وتشجيع البحوث والمشاريع الصديقة للبيئة، وإطلاق برامج للطاقة المتجددة والخدمات الحكومية الرقمية لتقليل استهلاك الموارد. ومع ذلك، يبقى الدور الأهم ملقى على عاتق المستهلك، فالمجتمع لا يمكن أن يبلغ أهدافه دون وعي أفراده. أن نكون مستهلكين واعين يعني أن نختار المنتجات التي تراعي البيئة وتدعم المسؤولية الاجتماعية، ونتجنب المنتجات أو الشركات التي تهمل الاستدامة أو تمارسها شكلاً دون مضمون. فكل قرار شراء يمثل رسالة دعم لثقافة الاستدامة، وبذلك تتكامل جهود الأفراد مع جهود الدولة والمؤسسات لضمان مستقبل أفضل وأكثر توازناً لأجيالنا القادمة.



