مقالات

العودة إلى هليليكي بين الذاكرة والهوية

قراءة فنية وسيميائية موسعة

بقلم د. آمال بوحرب

بقلم د. آمال بوحرب

فلسفة العودة في الأدب

العودة في الأدب تتجاوز الفعل المكاني لتصبح رحلة وجودية داخل النفس والزمان ومسعى لإعادة بناء الذات عبر استعادة العلاقة بالمكان والجذور الثقافية والاجتماعية. فلسفة العودة تقوم على فكرة أن المكان والزمن ليسا مجرد خلفية بل فضاءات حاملة للذاكرة والهُوية ووسائل لاستعادة الذات بعد محاولات الطمس والنسيان. هذا الفعل ليس مجرد إعادة للالتقاء بالماضي بل فعل مقاومة يعيد للذات حضورها ويتيح لها مواجهة القيود المفروضة اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا. في الأدب المعاصر تصبح العودة أداة فلسفية وسيميائية حيث يتحول كل بيت شارع أو زاوية إلى رمز يربط بين التجربة الفردية والذاكرة الجماعية ويتيح للقارئ الانخراط في فهم عميق لمفاهيم الهوية والمقاومة والحرية. ومن منظور فلسفي آخر، يمكن ربط هذه العودة بفكرة هايدغر عن المكان والوجود، حيث يصبح المكان “منزلًا للوجود”، وفعل العودة اكتشاف للذات في علاقتها بالزمان والمكان.

الهوية في مواجهة الطمس

كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على هويته وذاكرته في مجتمع يسعى إلى إلغاء جذوره وطمس تاريخه؟ هذا السؤال يشكّل المدخل الأساسي للقراءة العميقة لرواية «العودة إلى هليليكي». البطلة “ئالا” تمثل الإنسان الباحث عن ذاته في بيئة تمارس القمع الاجتماعي والسياسي وتطرح الرواية العلاقة بين الحرية الفردية ومسؤولية الاختيار ضمن هذه القيود. انتقالها إلى دمشق للدراسة يمثل محاولة لإعادة تعريف الذات والانفتاح على المجتمع الأوسع، في حين تكشف العودة القسرية بعد انتفاضة 2004 وتجريد آلاف الأكراد من جنسيتهم هشاشة الهوية أمام السلطة وصعوبة الحفاظ على الذات وسط محاولات الطمس السياسي والثقافي. الشخصيات الأخرى في الغرفة 196 مثل حنين المسيحية نور العلوية وفاء الدرزية تكشف تعددية المجتمع السوري وصعوبة التعايش بين الهوية المهمشة وهويات الأغلبية، وهو ما يعكس الصراع الوجودي بين الحرية الفردية والقيود الاجتماعية كما يؤكد سارتر في فلسفته على مسؤولية الفرد أمام ذاته ومجتمعه. ويمكن قراءة الرواية أيضًا من منظور فلسفة بول ريكور، الذي يرى أن الوعي بالذاكرة شرط أساسي لبقاء الهوية، وأن فعل استدعاء الذاكرة هو فعل مقاومة ووجودي في مواجهة النسيان القسري.

المكان كذاكرة حية

الحيّ هليليكي في الرواية يتحول إلى شخصية حية تحمل ندوب القمع والنسيان الرسمي وتعمل كأداة لإحياء الذاكرة الجمعية الكردية. ذكريات البطلة عن موت الأب وكفاح الأم وأحداث الانتفاضة تتدفق بحرية عبر التداعي الحر ما يجعل الماضي حاضرًا حيًا في وعي البطلة ومتصلًا بالحاضر. هذا التصور للزمن متوافق مع فلسفة بيرجسون حول الزمن كمدة متشابكة وليست مجرد لحظات منفصلة. الرواية تؤكد أن الذاكرة ليست مجرد تذكر بل فعل مقاوم يعيد تشكيل الذات ويعزز وعيها بالظلم والمقاومة ويحوّل المكان إلى شاهد حي على التاريخ الفردي والجماعي. في هذا السياق تتحول البيوت القديمة الأزقة الضيقة والشوارع المعبّدة بالغبار إلى علامات دلالية تعكس ندوب القمع الاجتماعي والسياسي وتؤكد وظيفة الأدب كسيمياء مقاومة للطمس. ويمكن مقاربة ذلك مع الأدب المعاصر الذي يعيد صياغة المدن كفضاءات ذاكرة، مثل أعمال جبران خليل جبران في تصوير المدن اللبنانية أو أعمال الطيب صالح في السودان، حيث يصبح المكان شاهدًا حيًا على الذاكرة الفردية والجماعية.

جدلية الوجود بين الهوية والذاكرة

الرواية تكشف أن الهوية ليست ثابتة بل هي عملية مستمرة من التفاعل والمقاومة. البطلة “ئالا” تحافظ على هويتها الكردية في دمشق من خلال استدعاء ذاكرة هليليكي والانتفاضة وتحويل تجربتها الفردية إلى فعل مقاومة جماعي. يتقاطع سؤال الهوية مع سؤال الذاكرة لتشكيل جوهر الوجود الإنساني ويطرح تساؤلًا فلسفيًا حول قدرة الإنسان على تثبيت ذاته في عالم يسعى إلى نسيانه. المقاومة في هذا السياق ليست مجرد رفض سياسي بل فعل وجودي يعكس حرية الاختيار ومسؤولية الفرد أمام ذاته ويؤكد أن التفاعل مع الآخر والحوار هما أدوات أساسية للحفاظ على الوعي الذاتي والهوية. كما يمكن مقارنتها بأعمال أدبية معاصرة أخرى تتناول الهوية والذاكرة مثل روايات توني موريسون التي تؤكد دور الذاكرة الجماعية في مقاومة الطمس الثقافي.

تعدد الأصوات والحرية الحوارية

الرواية تمنح الشخصيات أصواتًا متعددة بما يتوافق مع مفهوم باختين عن الحوارية حيث تتشكل الحقيقة من تفاعل الأصوات المختلفة. صوت الطالبات يعكس تعدد الهويات الدينية والقومية في المجتمع السوري بينما صوت البطلة الكردية يبرز كصرخة ضد التهميش السياسي والثقافي. هذا التعدد الصوتي يحول الرواية إلى فضاء لتشكيل معنى حر للحقيقة ويجعل الحرية ممكنة من خلال الحوار والمشاركة في الفضاء الاجتماعي والنفسي. الحوار بين الشخصيات ليس مجرد تبادل كلمات بل عملية فلسفية تكشف عن صراع الفرد مع المجتمع وعن قدرة الإنسان على مقاومة الطمس الثقافي والاجتماعي من خلال الفعل الكلامي والمشاركة الرمزية. ويمكن ربط هذا الأسلوب بالحداثة الأدبية التي تتبنى تعددية الأصوات في كشف الحقائق الاجتماعية والنفسية، كما في روايات فيكتور هيغو أو في أعمال أدبية عربية معاصرة مثل هالة رمزي.

الشعرية والرمزية في الكشف عن الوجود

اللغة الشعرية في الرواية تحول المكان والزمان والأحداث إلى أدوات للتأمل الفلسفي. البيوت القديمة الأزقة الضيقة الأشجار العتيقة تتحول إلى رموز تعكس علاقة الإنسان بذاكرته وهويته وتجربته الوجودية. الشعرية تكشف عن البعد النفسي العميق للبطلة وتجعل من الرواية تجربة شعورية معمّقة وفق فلسفة هايدغر التي ترى أن الكشف عن الوجود يتم من خلال التجربة المباشرة والوعي الشعوري بالمكان والزمن. الرموز الأدبية في الرواية تعمل كوسائل لاستدعاء الذاكرة ومقاومة الطمس وتعكس التفاعل المستمر بين الذات والمجتمع والتاريخ. ويمكن ربط هذا بالتيار السيميائي في الأدب المعاصر الذي يجعل من الرموز وسيلة لفهم العلاقة بين الفرد والمجتمع، كما في أعمال أمبرتو إكو أو رولان بارت.

الخلاصة: الرواية فعل مقاومة وجودية

رواية «العودة إلى هليليكي» تؤكد أن الوجود هو فعل مقاومة مستمر حيث الذاكرة لا تموت والهوية تتحدى الإلغاء. تعدد الأصوات اللغة الشعرية والتأمل الفلسفي يكشف أن الذاكرة شرط لبقاء الهوية وأن الهوية فعل مستمر في مواجهة القمع. الرواية تقدم رؤية واضحة أن الإنسان عبر استعادة ذاكرته وفهم جذوره يمكنه أن يؤكد وجوده وأن سؤال الرواية عن الذاكرة والهوية هو سؤال عن معنى أن نكون في عالم يحاول نسياننا. بهذا الشكل تصبح الرواية شهادة على قدرة الأدب على تحويل التجربة الفردية إلى فعل جماعي مقاوم وتثبت أن المكان والذاكرة واللغة أدوات فلسفية وسيميائية متشابكة لإعادة بناء الذات والوجود.

 

الرصانة والحرية: مقاربة للحب الحقيقي وعلاقات القلب المستنيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى