مقالات

كانط والحرية: فلسفة العقل في أفق الإنسان

د.آمال بو حرب _تونس

د.آمال بو حرب _تونس

في أعماق الوجود الإنساني حيث يمتزج الظل بالنور يقف إيمانويل كانط كعملاق من صقيع الفكر متأثرًا بنيوتن كما يتأثر القمر بالشمس ورأى في ميكانيكا الكون جوهرًا لكل تفسير لنسقنا الوجودي ومن هذا المنبع تدفقت مفاهيم أخلاقية وقيمية وثقافية كأنهار تنحدر من جبل شاهق

كل محاولة لفهم الطبيعة أو تصوّر الزمان والمكان تمر عبر الكوسمولوجيا الكانطية كبوابة سرية وتأثر كانط بأسرار الهندسة الإقليدية وافتتن برقصة الكون النيوتونية فجمع بين النزعة الرياضية الدقيقة وفيزياء نيوتن مستلهمًا تراث أسلافه داخل الدائرة الفكرية الغربية

هذه الرؤية المتشابكة جعلته يفسر الأخلاق بمنطق آلي فـ “إذا أردت فإنك تستطيع” أصبح قانونًا أخلاقيًا يوحد بين العمل الخير والإرادة الطيبة وفكره المشبع بالميتافيزيقا أشبه بوقود يضيء حوارًا مستقلًا حول العقل ونقداته الثلاثة العقل الخالص والعقل العملي وملكة الحكم لا تخرج عن التقليد الفلسفي العريق الذي يبحث في ماهية الحكم وكيفيته

تحرير العقل البشري يبدأ في نظره بكسر أغلال اليوتوبيا الإغريقية وقيدها الميتافيزيقي وفلسفته قوية البنيان إلى حد الطهارة الفكرية وعقلانية تستمد وهجها من شعائر تأملية كطقوس شخصية سرية.

كان كانط غامضًا وعميقًا ومنضبطًا على عكس الفضائح التي رافقت حياة بعض الفلاسفة مثل روسو هيغل ونيتشه أو حتى سارتر وكامو الذين امتلأت حياتهم بفجور ثقافي ظاهر أو مستتر والنبش في حياته العاطفية يشبه الحفر في خرسانة من فولاذ لا شيء يذكر وكأن حياته سارت فوق جليد القطب أنيقًا ومنضبطًا غير مكترث بالشهوات التي رأها نقيصة ضرورية لتكاثر البشرية لقد ذهب إلى أبعد من ذلك معتبرًا أن العلاقات المقننة بالزواج تحتاج إلى تهذيب حين يتحدث عنها في المجتمع المتحضر وهذا الرصيد الأخلاقي الصارم جعله كما يصفه حراس ترجمته يتجنب النساء في المناقشات الجادة ورد في بعض المدونات التاريخية أنه كان ضد تعليم المرأة الفلسفة هازئًا من فكرة أن تنبت اللحى في أذقانهن إن فعلن

لكن هذا التوصيف الفج قد يكون مجحفًا فكانط في مواضع أخرى ينظر إلى المرأة بحس جمالي متميز مميزًا بين “الجميل” و”الجليل” وفي مقابلة طريفة بين الثقافات رأى “الجميل” في الذوق الفرنسي والإيطالي بينما وجد “الجليل” في الألمان والإسبان وأشاد بشاعرية العرب وحسهم الميتافيزيقي للمرأة وجمالها

هناك نصوص غرائبية في سردية كانط تدهش القارئ وتكشف عن رؤية عميقة للذات والإيمان وفي فقرات تستوقف النظر يكتب “كلماتي لا تلعنني إذا قلت إن كل منا يخلق معبوده بل إن عليك أخلاقيًا أن تصوغ صورته لتعبّر فيها عن خالقك”

كانط المنهجي يعمل بعقل مهندس في مملكة الأفكار فارقًا بين وجوده كفرد مؤمن وبين دوره كفيلسوف يغوص في الأنثروبولوجيا والقيم ونظرية المعرفة وكان يتوجس من أي تصور للغيب لا يستجيب لشروط العقل المحض

بحثًا عن معنى الإنسان في زحام الميتافيزيقا قدّس كانط فكرة الحرية معتبرًا إياها الغاية العليا وهذا ما دفعه إلى تأمل فكرة التقديس نفسها ما الذي يدفع البشر إلى تقديس فكرة أو معتقد إله كانط كما يصوغه يهب حرية وخلودًا للروح ويتناسق مع مفهوم “الجليل” وفكرة الحرية المتعالية.

في المقابل ينهض بعض الفلاسفة مثل ميشال أونفراي ضد فكرة التقديس كلها مستلهمين نقد نيتشه الجذري للاهوت ويعتبر أونفراي أن فكرة الإله كما صيغت تاريخيًا نقيض للحياة واختراع يقلل من قيمة العالم الوحيد الذي نعيش فيه وكتاباته التي توصف بالسيولة الحديثة أحيانًا تميل إلى تفكيك المسلّمات الاجتماعية مناصرًا حرية الفرد بلا قيود

هذا الخطاب رغم ضجيجه الإعلامي يبدو أقرب إلى صرخة احتجاج ضد السلطة منه إلى بناء فلسفي متماسك وهو شأن كانط يبقى جزءًا من الحوار الإنساني الدائم حول الحرية والمعنى وحدود العقل

يختم كانط أحد نصوصه بتواضع مفعم بالحكمة “كنت أعتقد أن المعرفة وحدها تكفي لصنع شرف الإنسانية وكنت أحتقر الجاهلين لكنني غيرت رأيي وتعلمت احترام الناس وسأعمل جاهدًا على الدفاع عن حقوق الإنسان”.

الحرية كقدر إنساني عند كانط

من يقرأ فلسفة كانط يدرك أن الحرية ليست خيارًا أخلاقيًا فقط بل قدر وجودي للإنسان ففي ظل حتميات الطبيعة والضرورات الاجتماعية يصر كانط على أن الإنسان كائن أخلاقي بامتياز لا يكتمل إلا حين يمارس حريته بإرادة مسؤولة فالحرية عنده ليست مجرد حق بل هي القانون الأسمى الذي يرفع الإنسان من عالم الظواهر إلى عالم الواجب

إرث كانط بين الأمس والحاضر

اليوم وبعد مرور أكثر من قرنين على وفاته ما زالت فلسفة كانط حاضرة في النقاشات الفكرية الكبرى حول الدولة والقانون والأخلاق والعدالة الاجتماعية فهي مرجع لليبرالية الحديثة كما هي أساس للنقد الفلسفي في مواجهة السلطوية والعبثية وكانط برؤيته المتفردة يذكرنا بأن التفكير الفلسفي لا يشيخ وأن الحوار بين العقل والإرادة وبين الحرية والقانون سيبقى مفتوحًا ما دام الإنسان يبحث عن معنى وجوده

لكن هل يمكننا اليوم في زمن التحديات الكونية والتقنيات المتسارعة أن نستلهم من كانط صرامته الأخلاقية ورؤيته للحرية كي نعيد صياغة علاقتنا بذواتنا وبالعالم؟

غياب الظل والفقدان الوجودي في شعر دخيل الخليفة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى