مقالات

استحقاق الذات… رحلة وعي وإيمان

بقلم : حنان سالم باناصر 

بقلم : حنان سالم باناصر 

في زحمة الحياة وضغوطها، يظل استحقاق الذات هو البوصلة التي تعيد الإنسان إلى توازنه النفسي والروحي والاجتماعي. إنه إدراك عميق لقيمة النفس التي كرّمها الله، وممارسة يومية تحفظ للإنسان كرامته وطاقته وتوجه خطاه نحو أهدافه. فأولى خطوات الاستحقاق تبدأ من الداخل، من معرفة الإنسان لذاته وفهمه لمواطن القوة والضعف فيه، وقدرته على إدارة انفعالاته بوعي واتزان، إذ يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، في تأكيد على أن للإنسان قيمة عالية وكرامة أصيلة تستوجب منه أن يحترم ذاته ويعاملها بما يليق بهذا التشريف الإلهي.

ويتجلى هذا المعنى كذلك في تعاملات الإنسان مع الآخرين، حين يقدّر وقته وجهده وفكره، ويعرف أولوياته فلا يستهلك نفسه في كل طلب أو علاقة. وقد قال النبي ﷺ: “إن لنفسك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، وإن لربك عليك حقًا، فأعطِ كل ذي حق حقه” [رواه البخاري]، وهو توجيه نبوي بليغ يرسّخ مبدأ التوازن بين الحقوق وعدم تضييع النفس في سبيل الآخرين. ومن صور الاستحقاق المهمة أيضًا امتلاك الشجاعة لقول “لا”، فالتنازل المستمر وقول “نعم” فقط لإرضاء الآخرين أو خشية فقدان محبتهم يُضعف من قيمة الذات ويجعلها رهينة رضا الغير، بينما يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]، في تذكير بأن العزة والكرامة راسختان في قلب المؤمن.

والشخص الذي يعرف استحقاقه لا يذيب وقته في تحقيق أهداف الآخرين فقط، بل يصوغ لنفسه أهدافًا واضحة ومتوازنة تشمل أهدافه الروحية التي تعزز علاقته بربه، وأهدافه الشخصية التي تنمي ذاته وتزيد وعيه، وأهدافه المهنية التي تجعله أكثر عطاءً وتأثيرًا في مجتمعه، وقد قال تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [الشرح: 7-8]، في إشارة إلى أهمية استثمار الجهد في الاتجاه الصحيح وعدم تركه يتبدد في التشتت والضياع.

أما العلاقات الإنسانية، فقد وجدت لتكون مصدر سعادة وطمأنينة وثقة بالنفس، لا لتتحول إلى عبء وضغط أو جرح حتى إن كان تحت غطاء المزاح. واستحقاق الذات هنا يعني ألا نقبل بعلاقات مرهقة تستنزف طاقتنا، وألا ندخل في دائرة المجاملات الزائدة أو نتخلى عن طبيعتنا الحقيقية فقط لإرضاء الآخرين، لأن التصنّع المستمر يلغي الذات ويجعل العلاقة بلا معنى. فالعلاقات السوية هي التي تمنحنا الحرية أن نكون على طبيعتنا بلا خوف من رفض أو انتقاد، وقد قال النبي ﷺ: “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل” [رواه أبو داود والترمذي]، وهو تأكيد على أن اختيار المحيط الصحي والابتعاد عن العلاقات المرهقة جزء أصيل من استحقاق الذات.

ومن أرقى صور الاستحقاق أيضًا أن يرضى الإنسان بما قسمه الله له، فلا يقارن نفسه بالآخرين ولا يتمنى ما لديهم، قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [النساء: 32]، فالرضا يمنح القلب راحة ويعزز قيمة الذات، ويجعل الإنسان أكثر قناعة وثباتًا أمام تحديات الحياة. وهكذا يتضح أن استحقاق الذات ليس أنانية ولا انغلاقًا، بل هو وعي عميق بأن للنفس حقًا وكرامة، وأن الحفاظ عليها هو الخطوة الأولى ليكون الإنسان قادرًا على العطاء للآخرين. فمن أدرك قيمته الحقيقية كما أرادها الله، عاش متوازنًا، ووهب من حوله أصدق مشاعر الحب والدعم، وأصبح أقرب لتحقيق رسالته في هذه الحياة.

الإدارة المسؤولة… لغة الأرقام وبوصلة المستقبل

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى