الكسوف والخسوف


حسن بن محمد منصور مخزم الدغريري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة ، والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله ، وصحبه ، ثمَّ أمَّا بعد :
أخي القارئ الكريم : لنا مع الكسوف للشمس ، والخسوف للقمر عدة وقفات نجملها في الأرقام الآتية :
1-إنَّ الله تعالى خلق هذا الكون في انتظامٍ ، وقدرَّه تقديراً ؛ وجعل الشمس ضياءً ، والقمر نوراً ؛ وخلق النجوم والكواكب زينةً للسماء ؛ وعلاماتٍ يهتدى بها ؛ ورجوماً للشياطين ؛ وجعل كلَّاً منها يسير في محيطه ، ومداره بانتظام ؛ وصدق الله تعالى إذ يقول : ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) ( يس : ٣٨ – ٤٠ ) ولذا أمر الله بالتفكر في هذا الكون الفسيح ليزداد العباد إيماناً وتعظيماً لربهم ، فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف : 185 ) وقال تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ * وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) ( الرعد : 33 – 34 ) .
2-أنَّ ما يحدث في هذا الكون من حياةٍ ، وموتٍ ، وتغيِّراتٍ ، وتقلباتٍ ؛ فهو بتقدير الله تعالى ، ومشيئته ؛ ونسبة ذلك إلى غير الله كالطبيعة أو لغيرها كفرٌ بالله تعالى ؛ قال الله تعالى : ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) ( الجاثية : 24 ) وفي الحديث المتفق عليه من حديث : { زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ، قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : قَالَ : أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ؛ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا ؛ فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ؛ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ ) رواه البخاري ، ومسلم .
3-إنَّ الحكمة من حصول التغيرات الكونية ، ومنها كسوف الشمس ، وخسوف القمر ؛ هو تخويفُ العباد ليرجعوا إلى الله بأعمالٍ صالحةٍ ، وليتركوا ما هم عليه من الذنوب والمعاصي ، وليعلموا أنَّ ربهم قادرٌ على تغيير هذا الكون في لحظةٍ واحدةٍ ، وصدق الله تعالى إذ يقول : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ * أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ) ( الملك : 15- 17 ) .
4-الأصل أن يسير كلُّ كوكبٍ في فلكه بانتظام ، فإذا تغير شيءٌ من ذلك بقدرة الله حصل نوعٌ من الاضطراب في هذا الكون ؛ وقد ذكر أنَّ من أسباب الخسوف والكسوف : أنَّ القمر إذا حال بين الشمس والأرض ، وكان القمر والأرض على خطٍّ واحدٍ ؛ فإنَّه يقع الكسوف الكلي أو الجزئي للشمس ، وإذا حالت الأرضُ بين الشمس والقمر ، وكانت الأرض والشمس على خطٍّ واحدٍ فإنَّه يقع بأمر الله الخسوف الكلي أو الجزئي للقمر ، وأنَّ الكسوف والخسوف يذكرنا بتغير أحوال الكواكب والنجوم يوم القيامة ؛ كما في سورة الانفطار ، والتكوير ، والانشقاق ؛ نسأل السلامة والعافية .
5-أرشد النبي صلى الله عليه وسلم العباد إذا حصل كسوفٌ أو خسوفٌ أن يجتهدوا بالصلاة ، والذكر ، والدعاء ، والصدقة حتى يزول ما وقع بهم من كسوفٍ أو خسوفٍ ، وفي صحيح مسلم رحمه الله من حديث أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : (خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ جِدًّا ، ثُمَّ رَكَعَ ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ جِدًّا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ جِدًّا ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ جِدًّا ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ سَجَدَ ، ثُمَّ قَامَ ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ؛ وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ، فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ؛ وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ؛ وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ سَجَدَ ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ ، فَخَطَبَ النَّاسَ ، فَحَمِدَ اللهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ آيَاتِ اللهِ ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ ، وَلَا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَكَبِّرُوا ، وَادْعُوا اللهَ ، وَصَلُّوا ، وَتَصَدَّقُوا ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ إِنْ مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ) .
6- رغم إعلام الناس مسبقاً بوقت خسوف الشمس ، وكسوف القمر ، ثم مشاهدته عن قرب إذا وقع إلا إنَّنا نجد كثيراً من الناس لا يذهبون إلى المساجد إحياءً لسنة صلاة الكسوف فيها ؛ والتي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكيفية الواردة في الحديث السابق ؛ فحرموا أنفسهم من أجر القيام بهذه السنة العظيمة ؛ والتي فيها تعظيمٌ لله ، وخوفٌ من عقابه في الدنيا والآخرة .
نسأل الله ألا يؤاخذنا بما كسبته أيدينا من التقصير في طاعة الله ؛ والوقوع في معصيته ، وأن يغفر لنا وير٠حمنا جميعاً إنَّه هو الرحمن الرحيم ، وأن يدخلنا وإياكم واسع رحمته وجوده في جنات النعيم ، وجميع الأهل ، والأحباب . اللهم آمين .